عبر كليفلاند ليلاً ـ 2 ـ

 

إلى يميني شخص لا أرى ملامحه، إلى يساري أيضًا، الجلوس إلى المنضدة المستطيلة هكذا، جماعة بالعدد، فرادى بالحالة، كلٌّ بذاته متطلع إلى الأمام صوب الزجاجات المتجاورة، المتلامسة، المتراصة، ربما لهذا التطلع غير المحدد بهدف أصبحت شاشة التليفزيون المسطحة، الضخمة تتوسط الأرفف، وفي الأغلب الأعم تعرض ما تبثه القنوات الرياضية، الكل شاخص أو مستغرق، تناولت طبق السمك المقلي مع البطاطس، هذا يكفي خلال الساعات السبع التي ستستغرقها الرحلة حتى نيويورك، على مهل وخفية رُحت أرقب المحيطين بي، لكلٍّ طريقة في التطلع، النظر، تناول الطعام، احتساء الشراب، لا يشبه فرد الآخر، ليس هنا فقط، ولكن في النوع الإنساني، ليس بصمة الأصابع فقط، لكن كل شيء.. كل شيء.

أغادر متمهلاً، متجهًا إلى صالة الانتظار أمام الباب المؤدي إلى الطائرة، الآن لا أذكر أي ملامح تمتُّ إلى أولئك الذين سيصبحون جيراني الأقربين مدة المسافة، عندما جئت من نيويورك أول أمس كانت معظم المقاعد خالية، جلست إلى جوار النافذة في الصف قبل الأخير، مؤخرة الطائرة، إلى المقعد المجاور وضعت الكتب التي أصحبها في الرحلة، ثلاثة هذه المرة، المواقف والمخاطبات للتعزي، الجزء الثالث من البحث عن الزمن الضائع لبروست، افتتاح الدعوة للقاضي النعمان الداعية الفاطمي، أعرف أنني أحيانًا لن أقرأ إلا بضع صفحات معدودات، غير أنني لن أستقر إلا إذا صحبت أكثر من كتاب في متناولي، أخشى أن أنتهي من قراءة كتاب ولا أجد آخر، من ناحية أخرى فإن صحبة الكتب أحيانًا تبث حميمية أكثر من رفقة البشر، ساعات الطيران فرصة للخلوة، للاستغراق عبر الذات، لذلك أفضل الانفراد، إلا إذا سافرت برفقة أهلي، أو صحبة حميمية، يمكنها احترام صمتي.

إنها الطائرة التي جئت عليها، أقصد الموعد، لا أعرف إذا كانت هي عين الطائرة أم لا؟ صحيح أنها نفس الطراز، بوينج 757، نفس الشركة، دلتا، لكن أن تكون هذه هي الطائرة نفسها فهذا ما لا يمكن أن أقطع به.

أستعد لدخول الطائرة، رأيت الركاب القادمين عند خروجهم من الأنبوب، هكذا مشيت مثلهم متجهًا إلى خارج المطار أول أمس حيثُ كان بانتظاري الدكتور نزار الصياد، ربما لمحني أحد المسافرين، مثلت في دائرة بصره بضع ثوانٍ، غريب يتقاطع مع غرباء، هكذا حال المسافرين، هأنذا أتأهب لدخول الطائرة، للعبور من أقصى الغرب إلى الشرق، من ساحل المحيط الهادي إلى المحيط الأطلنطي.

مع إقلاع الطائرة تطلعت عبر النافذة إلى الوراء، أقصى ما يمكنني، لا أظن أنني رأيت سطوعًا للألوان كما أبصرت في هذه اللحظة الظهيرية، زرقة عميقة للمحيط تلتقي شاطئًا شديد الصراحة، البني الصخري، خضرة الزرع غاطسة في الضوء، درجات متقاربة من الأخضر لم أعرفهـا من قبل، ضوء مصفَّى، كاشف، بقدر ما يمكنني حاولت أن أستوعب، الآن، لا أفضل التقاط الصور، تخففت من حمل آلة التصوير خلال السنوات الأخيرة، ما يعنيني تثبيت الملامح في الذاكرة حتى وإن تغيرت مع مرور الوقت، طبيعي أن تبقى أطراف، شظايا، لا شيء يبقى على حاله.

ينأى الشاطئ بما يحوي، تبتعد الألوان لتحل ألوان أخرى، صخور كولورادو، ثلوج فوق قمم خالية من أي علامات لوجود الإنسان، صحراء نيفادا تعني القنبلة الذرية حيثُ منطقة التجارب التي قرأت عنها طوال الخمسين عامًا الماضية، مشاهد عديدة توالت، تمامًا كرحلة الذهاب، خط السير في العودة قريب مما سلكته جوًّا غير أن ما سيبقى ماثلاً عندي قدوم الليل.