من فضلك أعد لي عبوديتي!


فتنة كانت أفكار كتابه لي، قبل أن أدخل القفص النحاسي، وليس الذهبي. نعم، إنه قاسم أمين، حين دعا إلى تحرري، لم يكن يخطر على باله، أنه علي أن أصبح «هرقل»، المفتول العضلات، وهو ينفجر ضد متاعب الحياة اليومية كالإعصار. مع قاسم أمين، ومع من جاءوا من بعده، كسبت معركة التحرر، وختمت من يومها على أيامي حكماً بالأعمال الشاقة المؤبدة. الإحساس بالتحرر جعلني أكثف قدراتي، وكل طاقاتي، لأكون امرأة عصرية شاملة، لا تكتفي بالتفوق في عملها، بل تدير مؤسستها الأسرية برتبة عقيد ممتاز. فقبل أن أدخل القفص النحاسي، ولست أدري من لقب قفص الزواج بالقفص الذهبي، المهم كنت ترى براكين غضبي من بعيد، كنت أرفع شعارات التحرر في كل حدب وصوب صائحة: «حرروني.. حرروني». ولم أعِ يومها أنني قد خسرت تلك القطة الوديعة داخلي بهذه الشعارات، انقلبت أوضاعي رأساً على عقب، بدأت بالعمل كصرافة في بنك، وتحولت إلى دمية تشتغل بالبطاريات، وذلك لمدة أربع وعشرين ساعة يومياً. وكان الله في عوني، أصبحت امرأة أتقن ألف حرفة، من غسالة صحون، إلى مدرسة خصوصية، إلى شغالة نظافة.. يزج بي يومياً في حلبات المصارعة الحرة، أصارع اللحاق بالأوتوبيس، وأصارع الوقت لإعداد الطعام للحناجر التي تنتظرني بالبيت، وأصارع الدقائق لأساعد الأطفال في حل واجباتهم المدرسية، وأصارع المكواة لتسخن بسرعة لأكوي قميص الزوج، وأصارع في الحصول على سيارة أجرة لأخذ الولد إلى الطبيب، لأنه ربما يكون قد أصيب بأنفلونزا الخنازير، وأصارع في مجاملة المدير العام، وسكرتير المدير العام، وصراعاتي غرق في غرق، أنا أغرق في مسابقة سيعلن عنها قريباً، هي «سوبر ستار المرأة».

المهم، عدت يوماً متأخرة إلى بيتي، لأفاجأ بسيارة شرطة واقفة أمامه، وما أن رآني الأطفال والزوج، حتى هرعوا إلى معانقتي، وبعد ذلك حكوا أنه بعد مرور ساعات طويلة، لم يظهر فيها «وجه القمر»، اتصلوا بالشرطة خوفاً علي من أن يكون قد اختطفني أحد، أو حدث لي مكروه. أنا أعرف من حركهم للاتصال بالشرطة.. إنه الجوع اللعين!، فزوجي لا يعرف حتى كيف يقلي بيضة. لكن ما أخفيته عنهم يومها أنني غرقت في سبات عميق، لم أفق منه إلا على صياح صاحب الحافلة، بأننا وصلنا إلى آخر محطة، والرجاء منا النزول. أقف بعد كل هذا العمر على الحقيقة المرة، أنني رغم تحرري، عجزت عن إقامة التوازن بين عملي وبيتي، فزوجي رغم أنه لا يعارض تحرري، إلا أنه ظل عاجزاً على أن يساعدني في متطلبات البيت، لأن أمه ربته على أن يكون الرجل الوحيد على سطح الكرة الأرضية، ومحور الكون وسيادته يخدم فقط. هل أضحك اليوم هازئة مما حل بي، وأنا تتضاعف حولي مسؤوليات أجهل من أين تتحدف علي، أم أناديك يا قاسم يا أمين أن تعيد لي عبوديتي، فهي أرحم لي؟! الطامة الكبرى أن ذلك الصوت الداخلي يبقى معارضاً ويناديني في أغلب الأحيان «اتق الله يا امرأة من هذا الجنون!»، فلابد للهاتك نهاية، ولابد لليل أن ينجلي. فلا تقيمي المنظمات الحقوقية عليك ولا تقعديها.