وأخيرًا.. تخرّجت

أحببت أن أرصد تجربتي، أو بالأحرى مشاعري، وأنا أخطو آخر خطواتي في مجال العمل الحكومي، وقررت الابتعاد عن مكان عشت فيه لأكثر من عشرين عامًا. مكان سكنت فيه وسكن فيَّ. مكان أعشقه وأحببت من فيه، إلا أنني سأتركه بإرادتي الواعية، أريد الخروج منه وأنا احتفظ ببقايا حبٍّ، واعتبرت قرار تقاعدي مرحلة جديدة؛ مرحلة تخرجت فيها بجامعة العمل لأبدأ حياة مختلفة، أرسم فيها مساري وأخطّط أهدافًا ارتفع فيها بمقاصدي وأسمو بها لغاياتي؛ لتحقيق المزيد من العطاءات بإذن الله. نعم لقد كان كل همي أن أبتعد بالتدريج؛ لأخفف وطأة الانفصال من دون خسائر نفسيَّة لشخصي، لكن أحاسيسي تناقضت بين شدٍّ وجذب، بين رضا وتذمر، بين تقبل ورفض، وتصارع قلبي مع عقلي؛ كيف لي أن أبتعد من دون أن يشعر من حولي؟! فأنا لن أقبل أن يتم الاحتفال بخروجي.. حينها تذكرت عندما كنت مسؤولة لعدة سنوات عن تنفيذ حفلات التكريم للمتقاعدات، كنت أجد رفضًا وعزوفًا منهن عن الحضور! وها أنا اليوم أقول لنفسي لِمَ الرفض؟ واكتشفت أنَّه في بعض المواقف قد تختلف المشاعر بين القول والفعل. فأنا أحبُّ عملي وأحبُّ صديقاتي وأحبُّ المكان. لكنني لم أتمكن من تحمل التعامل مع تعاميم عمياء وقرارات فجائيَّة وتطبيلات ليس لها داع، وإعطاء القوس في كثير من الأحيان لغير باريها! بمعنى حين تسند مهام إلى من لا يفهم أبسط أهدافها ولا أبجديات طبيعتها ولا التخطيط لها! تعبت من كثرة الخطابات المكررة لنفس الموضوع، وسئمت من سماع قول: إنَّ هناك من يفصّل ونحن نلبس، وأنا لا قدرة لي على المهاترات، وفي نفس الوقت ليست لديَّ القوة بأن أخوض معارك يوميَّة، وطبيعتي لا تسمح لي بأن أكون مجرد قائدة متفرجة.

 وعودة مرة أخرى لمشاعري؛ التي تفاجأت بإقامة حفل رسمي امتد بحفل غداء خارج مقر عملي. حفل حمل لي كثيرًا من المفاجآت، صدقًا لم أكن أتوقعها أو أنتظرها.. فكانت فرحتي لا توصف برؤية صديقات لم أشاهدهن منذ سنوات، أحسست بقلوب تحتويني، ونظرات يشع منها دفء الأحاسيس وصدق الأخوة، لحظتها رسمت شكري أولاً لخالقي الذي وهبني محبة من حولي، ثم أبت جملي إلا أن تبوح وهي خجلة، واحتارت كلماتي إلى من أوجه شكري أو بمن أبدأ؟ هل أبدأ بوالدتي وشقيقاتي على تكبدهن مشقة حضور الحفل من الصباح الذي كان بمثابة تاج على رأسي؟ أم أبدأ بشكر ابني الغالي الذي فاجأني بأنه من أسهم في التنظيم والإعداد لحفلي؟ أم لسماعي صوت ابنتيَّ القادم من أقصى بقاع الأرض، وهما تهنئانني وتشاركانني فرحة التكريم صوتًا وروحًا؟ أم لكل من وقفت إلى جانبي ودعمتني في بداياتي وساعدتني ودفعت الأمل في طريقي؟ أم أبدأ بشكر من كانت تقرأ أفكاري من دون أن تبوح كلماتي، فكانت فراشة تنثر عطرها وعبيرها من حولي؟ أم لكل من سطرت بأعمالها أبلغ معاني الإخلاص والتضحية والوفاء، وشاركتني آمالي وطموحاتي؛ للوصول إلى عمل راق؟ أم لمن فكرت ونفذت وأسهمت في حفل (تخرجي)؟ فشكري كبير وعميق لاحدود له، شكرًا لكم جميعًا، ولا حرمني الله صدق مودتكم.