نوطة عالسطر

 

الصحافة و"فيروز".. حب من طرف واحد

كما في كل حفل لفيروز، صوت لبنان، ملاذنا الأخير نحو الحرية، يأتي من هو في محيط السيدة ليقف بيننا وبين فيروزنا مستغلاً قرابة الدم والموقع الطبيعي الذي وضعته فيه الحياة ليمنعنا من التحدّث ومن التصوير والتواصل بكل الوسائل التي أتاحها لنا العُرف المتّبع عالمياً...

 

بعد حفل فيروز الأخير في بيروت، انتظر الصحافيون 3 أيام إلى أن قامت ريما الرحباني بإرسال دقيقة من لقطات (الفيديو) لست حفلات قدّمتها فيروز في (ساحل علما) في شرق بيروت، لتصل هذه الصور مجتزأة ولتظهر فيروز "قارئة" لأغانيها، ما يدلّ على عدم حرص الجهة المعنية بالعلاقات العامة على حماية صورة فيروز في الإعلام! وماذا يعني أن ينتظر الصحافيون ثلاثة أيام للحصول على المادة المصوّرة؟

في مرات سابقة، احتجّ المصوّرون حين منعتهم ريما الرحباني، ابنة فيروز، في مهرجان بيت الدين الدولي، من تصوير الحفل... بينما تصرّف نجوم عالميون كانوا مشاركين في المهرجان بطريقة مختلفة عكست التزاماً واحتراماً أكبر للصحافة... ويبدو أنّ الصحافة لم تصل بعد إلى قلب الابنة التي استولت على القيادة بعد غياب الكبار من آل الرحباني. وهذا ما زاد العداء مع أبناء العموم أولاد منصور وغيرهم من أبناء الرحباني، وكأنّ هناك حالة من الاستحواذ على الإرث الرحباني الذي عمل عليه الأخوان واستمر فيه الأبناء (الموهوبون) وقدّموا أعمالاً قد لا تصل إلى ما قدّمه "الأخوان"، إلا أنّ هناك تجارب تستحقّ التحية والتقدير.

 

لقد بات هذا الأمر يشكّل حالة من التذمّر عند الزملاء الصحفيين الذين يحملون كل مرة خيالهم ليكتبوا ويكرّموا فيروز ويعلنوا عن حبهم مراراً، إلا أنّ هذا الحب يبدو وكأنه من طرف واحد. ألم يحن الوقت بعد لمقابلة فيروز؟ فمرة، تقابلنا مستشارتها الإعلامية، ومرة ابنتها، ومرة تأتينا رسالة محاميها... ماذا يدور حولنا؟ ومن الذي يضع كل هذه الحواجز بيننا وبين فيروز؟!

 

قد يقول البعض إنّ هناك حرصاً على صورة فيروز التي ستخرج إلى العامة من الناس الذين لا يستطيعون دفع ثمن بطاقة حفلاتها الذي يتراوح ما بين الخمسين وأكثر من مئتي دولار.

 

عدد الحضور يمكنه أن ينقل أية معلومة يحتاجها العامة، وهم من غنّتهم فيروز بصوتها، ووقفت بوجه الظلم لتحكي حكايتهم.

 

الدقيقة التي أجادت بها ريما الرحباني على الإعلام لا تخفي أية سقطات فنية، ولن تخفي عمر فيروز الحقيقي، ولن تزيد من عدد الأغاني التي قدّمتها فيروز مقارنة مع الكورال، ولن تعيد فيروز إلى أيام فخر الدين.. فنحن لنا فيها، كما لكل من استيقظ ذات صباح ولم يجد ما يحمل سوى الأمل المنبعث من صوتها القادم من الدخان المتصاعد، ومن بين ركام الهزائم والانتصارات، من الصباحات الجميلة على سفوح لم يطأها العابرون صدفة، من جبال لم يقوَ على صعودها سوى النبلاء والأحرار.

 

فيروزنا أنت ونحن جمهورك نوجّه لك هذه الرسالة كي تضعي حداً لمن منعنا من التواصل معك، وحرمنا من حضور حفلك، لا بل حرمنا من الصوت والصورة كوننا مغتربين لا يمكننا أن نحضر إلى بيروت اليوم لنسمع صوتك ونتذكّر طفولة وشباباً وأياماً جميلة وحزينة. فيروزنا كما في كل مرة تعديننا بأنك ستقفين معنا غداً وكل يوم.. فيروزنا نخاف عليك كما نخاف على الأطفال وعلى الورود، وعلى الوطن.

 

العشوائيات الفنية ...

"العشوائيات" كلمة صدّرتها عاصمة الفن والثقافة العربية (القاهرة) التي احتضنت كبار الفنانين العرب. القاهرة التي صدّرت للعالم الصوت والصورة والتي شكّلت الكثير من الثقافة العربية لأكثر من 100 عام من العصر الحديث... القاهرة أصوات (المشايخ) وأنغام الشرق، أبو العلا محمد، وزكريا أحمد، ومحمد عثمان، ونجيب الريحاني، وسيد درويش، وداوود حسني، ومحمد عبد الوهاب، ورياض السنباطي، وليلى مراد... القاهرة أسمهان، وأم كلثوم، فريد الأطرش، وعبد الحليم حافظ، وأسماء لم تغب يوماً عن الوعي العربي... القاهرة التي اتّسعت لمصر وللعرب وللباحثين عن السحر الشرقي.

القاهرة باتت مقهورة ومقهورة على العشوائيات البائسة المحيطة بها. إلا أنّ حال الفن العربي ليس أفضل... فهو اليوم محاط بحزام بؤس ونشاز وعريّ وتصحّر وضحالة تجتاح المدن وتمنح الجوائز لأقصر فستان، جائزة للوقاحة، جائزة للعبث، وجائزة لأجمل ناد ليلي! العشوائيات الفنية تحاصرنا من كل حدب وصوب، محطات خاصة "للعشوائيين"، راقصات يلوحّن بكل ما يملكن لجذب المشاهد العشوائي، ومحطات لعشوائيات الإهداءات... فيما مضى، كانت الهدية كتاباً أو قصيدة، كانت الهدية وردة أو مزهرية، أما اليوم، فرقم تلفون وكلمات ليست كالكلمات.. ضيوف البرامج التلفزيونية يغنّون أشياء لا تشبه الغناء ويرقصون فوق الرمل.

إنها الفوضى غير البنّاءة في سلّم المحطات الفضائية التي تقدّم العرب للعالم ولأنفسنا بصورة مفجعة، لفتيات عربيات يرقصن ويدبكن ليلاً ونهاراً، ويبرزن ما تيسّر من اللحم الحيّ لجذب مشاهد يبدو أنه مريض أو يعاني مشكلة نفسية حقيقة... وما يلفت في هذه المحطة، أنّ لا وجود للمطرب الذي يسمع صوته فقط، يغني ويغني دون أن يلتفت إليه مخرج الصورة، لكنّ المفاجأة كانت أنّ هذه المحطة قدّمت مطرباً إلى السوق الغنائية بعد نجاح أغنيته (قلب قلب) لتصبح ضمن مجموعة العشر الأوائل في سباق الأغاني العربية. قد يكون هذا المطرب محظوظاً باختراقه المنظومة المسيطر عليها من شركات الإنتاج التي تسوّق لمشاهير يعتمدون نفس الأسلوب... لكن، على طريقة غربية تحت شعار الانفتاح.. باستغلالهم لمراهقات يرغبن بالصعود إلى الواجهة الإعلانية وهم بدورهم يختبئون خلفهنّ.

العشوائيات الفنية باتت تحيط بكل فرد. غاب المشهد الفني الإبداعي لتحلّ مكانه أشياء تسير برفقة أشياء عريضة تلبس بدلات سوداء وتقود سيارات فارهة وتلتقي بطبقة من الفاسدين الذين يغذون أعمال هذه الطبقة الفنية تحت تسميات مختلفة.

ما الجدوى اليوم من هذا الكم الهائل من الإنتاج غير الجاد؟ وما قيمة اللعب على أفكار مسروقة بحجة التجديد؟

المطربون الجيدون يبدون اليوم كالشوارع العتيقة في المدن القديمة التي تركت بعضاً من جمال الماضي على زواياها، بينما باقي المدينة مجنون لا مواقف للسيارات ولا تنظيم مدنياً ولا احترام لإشارات المرور وأشياء يصعب وصفها... عشوائيون يندسّون وسط الفكرة ويصدّقون أنهم مطربون، ويمضون في تقييم الآخرين ويقدّمون آراء بعيدة عن البناء.

في افتتاح أحد المسارح الكبرى في مدينة عربية في طريقها نحو التطوّر، رأى المنظّمون أهمية استقبال فرقة سمفونية عالمية، لكن فاتهم أن (يشحنوا) الجمهور الخاص بهذا النوع من الموسيقى... لم يخطر في بال الحاضرين أنّ لهذا الفن أصولاً متّبعة في العالم... فلم تقفل الهواتف النقالة ولم يصمد المتنقّلون بين المقاعد لفترة تسمح بالتقاط صورة تذكارية... السندويشات التي تأتي تباعاً لعشّاق الموسيقى الكلاسيكية... أية سوريالية هذه؟! وأية عشوائية في الاختيارات؟!

في المسارح الكبرى المخصّصة للموسيقى الكلاسيكية يصعب اكتشاف الجمهور لشدّة الصمت داخل العتمة، فالضوء والصوت فقط لتلك الأصابع المبدعة التي تلاحق عصا المايسترو، فلو نزلت الموسيقى للزفرة لسمعت في زوايا اعتادت أن تنحني لعظمة التأليف والإبداع.

 

 

أغاني التحوّلات الاجتماعية ...

(انت بنت الأكابر ونحن جماعة دراويش).. تجذب هذه الأغاني عشّاق السهر وطبقات اجتماعية تجد لنفسها مكاناً وسط هذه الكلمات التي تأتي مباشرة، وتسمّي الأشياء باسمها (صرت بنت الأكابر) ليبيّن شعر هذه الأغنية التحوّل المادي السريع الذي بدأ يظهر على بعض الأفراد دون المرور بالعصامية التي كوّنت ثروات لمهاجرين أو لتجّار ناجحين، أو متعلّمين تولّوا وظائف مهمة جعلتهم في مصاف الأغنياء. فيما يحاول المطرب ربيع الأسمر من خلال صوته أن يؤدّي دور (المسكين) متعمّداً جرح صوته وترجيفه في بعض الأحيان ليكون مقنعاً حين يحاول الدفاع عن كرامته في مواجهة تكبّر الحبيبة التي تغيّرت أحوالها وباتت خارج مجتمع (الدراويش) بإشارة إلى الفقراء. تعيدني هذه التجربة إلى أغنية (الحالة تعبانة يا ليلى خطبة ما فيش/ أنت غنية يا ليلى ونحنا دراويش) لزياد الرحباني من مسرحيته الأولى (سهرية) التي قدّمها الراحل جوزيف صقر. وهنا، يبدو الفرق في الخطاب الاجتماعي الذي قدّمه زياد منذ أكثر من ثلاثين عاماً على إصدار هذه الأغنية (الحالة تعبانة). ويبرز ذلك جلياً حين يقول (انت بوادي/ ونحنا بوادي/كل لحظة تبعدنا زيادة/.. الأرض اللي عنا بلا سجادة، وانت معودي تمشي على الريش) وهذا سيحول حتماً دون إتمام الخطوبة. زياد تابع هذا السير في العديد من إنتاجه. وبدا ذلك جلياً في شريطه أنا مش كافر في أغنية (شو عدا ما بدا/ما بتفرق مع حدا/ صرنا بدنا نبيع/ الماس الخواتم/ذهب المناجم/ لندفع بالمطاعم فاتورة الغدا/.

وهذا مؤشّر اجتماعي عبّر عنه زياد في حينه، منبّهاً إلى الغلاء وإلى اتساع الهوّة بين طبقات المجتمع... فأسلوب الرحباني كان منسجماً مع تاريخه، ومع التفاتة اجتماعية عبّر عنها مسرحياً وموسيقياً.

يطرح الفنان أيمن زبيب في أغنيته (شو بعملك انا حبيت/ ومش قادر إفتحلك بيت/ لا بيي مورثني ورثة/ ولا علمي كفيت/ شو بعملك هيدا وطنا/ الخ)... معتمداً نفس أسلوب (النواح) وذلك من اختيار المقام الموسيقي الذي يبرز الحزن والغبن، وإن لم يكن منسجماً مع حضوره في الأغنية... فالبدلة التي أطلّ بها أثناء تقديم هذه الأغنية تشير إلى إمكانيته فتح أكثر من بيت. إلا أنّ الجمهور ينساق خلف الشعار الذي يدغدغ أو يبرّر حالة اجتماعية لكثيرين لم تبتسم لهم الحياة بما يكفي.