أين يذهب العمر؟

مريم شمص
مريم شمص
مريم شمص

بين حلم وحقيقة، وبين أمنيةٍ تغيب وواقعٍ يتبدّل، يمضي بنا العمر قبل أن نفهم ما يحدث لنا بالتحديد..

نكون أطفالاً، تتثاءب أحلامنا في أوّل صحوتها، يعكس بريقُ الندى المبكر في عيوننا صور حياةٍ ملوّنةٍ عذبة تحيط بنا..

نتلحّف بحنان آبائنا، نستظلّ بأمانهم.. نشعر بأننا نملك الدنيا وأنّ كل هذا الاتساع من حولنا لن يكفي لكلّ الخطوات التي نريد أن نمشيها، ولا لكلّ الإنجازات التي نخطّط لتحقيقها.. نرى أنّ العالم مكانٌ جميلٌ ليس فيه إلّا كلّ من يحبّنا..

وعلى غفلةٍ، على مهلٍ، على عجلٍ، نكبر! نكبر بأيّ طريقة ممكنة وبكلّ الطرق الممكنة.. وفي طريقنا لا ننتبه أنّنا نرمي عمداً أو عن غير قصد، فتاتاً من أرواحنا.. كأننا نخاف أن نضلّ الطريق إذا نوينا الرجوع، كأننا نخشى خيانة العمر وخيانة الفرح وخيانة الأحلام..

لكننا نكبر، وتتوالى الخيانات.. قد يخوننا حلمنا الأوّل حين يكشف عن وجهه الحقيقيّ كاسمٍ بديلٍ للوهم. قد يخوننا حبّنا الأول كمعنى بديلٍ للسراب.. قد تخوننا النسخة الأولى منّا، تلك التي كانت ناعمةً جميلةً طيبة، حين تنصاع لضغوطات الأيّام فتقسو.. قد تخوننا الحياة التي تبدو من البعيد أجمل وكلّما اقتربنا أكثر ظهرت التفاصيل التي تختبئ خلف ألوان الصورة الكبيرة..

تمضي السنوات كلّ واحدة غير الأخرى، فبعضها نجتازها قفزاً بين الحبال الكثيرة المشبوكة في طرقاتنا، وبعضها نجتازها زحفاً من شدّة التعب، وبعضها نجدّف فيها بكلّ قوتنا كي لا يغرق قاربنا، وأخرى تنساب بنا انسياباً للطفها وحلاوة أحداثها.. نصعد وننزل، نطير ونهوي، نضحك ونبكي، نحتفل بصوتٍ عالٍ أو ترتدي قلوبنا السّواد في صمتٍ..

تمضي السنوات وتتغيّر أولوياتنا، فمن كان يوماً في رأس القائمة قد يصبح في يومٍ آخر صورةً جامدةً في دُرجٍ احتياطيّ، وما كان يوماً الأهمّ بالنسبة لنا قد يُنسى كأمرٍ لم يكن.. تتغيّر حاجاتنا فيصبح اليوم العاديّ الهادئ ترفاً والـ «لا أخبار جديدة» خبراً سعيداً..

تتغير معاييرنا فنبدأ باحتساب أعمارنا بعدد السنتمترات الإضافية في طول أطفالنا، وعدد العناقات التي نمنحها لهم، وعدد كلمات الحبّ التي يغرقوننا بها، لننتقل من بعدها لعدّ اللقاءات معهم وعدد مكالماتهم لنا حين يفلتون أيدينا..

ننظر إلى مرآتنا باحثين عن الطفل الذي كنّاه منذ برهة يمشّط شعره الناعم، عن المراهق الذي كان منذ قليلٍ يقيس اختلاف حجم عضلاته، عن العروس التي ترشّ العطر على معصميها، عن الخدود المتورّدة بعد حصّة الرياضة.. نحتال على شعرات الشيب بالألوان المصطنعة، وعلى التجاعيد العنيدة بما أمكن من عبارات شباب القلب وجمال الروح.. نحاول عبثاً أن نفهم أين ذهب ذاك الطفل، أين اختفت تلك المراهقة، وكيف ابتلع العمر خجل تلك العروس الجميلة..

ورغم كلّ شيء، يمضي بنا العمر مغمورين برحمة الله ولطفه محاطين بنعمه، مسلّمين بأنها سنّة الحياة، وبأنّ السعادة قرار واختيار، وبأنّ الحياة ليست كافية لكلّ ما أردناه أو حلمنا به، ولا هي تستحق أن تكون ساحة صراعات.. أنّها ليست سوى فرصة لتحقيق ما استطعنا إليه سبيلاً من النجاح والسعادة، مع كلّ من نحبّ.

ولتكونوا بخير، هذا العام المقبل.. وفي كلّ عامٍ مقبل.