اللي يختشون ما زالوا!

من أجمل صفحات ذاكرتنا ما كان يطل به علينا المرحوم الشيخ علي الطنطاوي في برامجه التليفزيونية، وكثيرة هي الذكريات معه ومع قصصه الطريفة المعبرة، ومنها ما رواه عن حريق نشب مرة في سكن للطالبات في القاهرة، حيث صار الحريق في منتصف الليل، والبنات نائمات، وهذا تسبب في ذعر رهيب، حتى إن بعض البنات هربن من السكن بملابسهن الداخلية، وهذا أنجاهن من موت محقق، بينما ترددت أخريات بسبب حرصهن على التستر قبل الهرب، ولكن الذي حدث أن الحرص على التستر نتج عنه موتهن، حيث حاصرهن اللهب والدخان، وهذا ما حدا بالناس المتجمهرين حول المبنى أن يرددوا القول إن «اللي يختشون ماتوا»؛ أي أن البنات اللاتي حرصن على التستر هن اللاتي متن، بينما اللاتي فررن بجلودهن سلمن من الموت.

هذا أصل الحكاية...

ولكن الناس اليوم وفي البيئات العربية يرددون القول: «اللي يختشون ماتوا»، ويرونه مثلا يقال، ويقصدون به أن أهل المروءة والحياء ماتوا، وهدفهم من هذا الإشارة إلى فساد الزمان وفساد الحاضر، وأن الزمن الماضي كان أشرف وأنبل، وكلما حدث حادث حضر هذا المثل من باب النعي على واقع الحياة وعلى مصائب الزمان.

طبعا الناس لا يعرفون قصة هذا التعبير، ولكنهم يجدون أن هذا التعبير يساعدهم على كشف نقمتهم، والتعبير عن سخطهم من موقف أو آخر.

وهذه دائما قصة الأمثال على مدى تاريخ الثقافات كلها، إذ إن المثل ينفصل عن قصته الأصلية، ويتحرر منها؛ لكي يتسنى له الاستقلال الدلالي، ومن ثم يصبح قولا عاما يعبر تعبيرا رمزيا عن حالات متعددة حسب رغبة المتحدث أو المتحدثة. وهذا طبعا هو الشأن العام في كل التعبيرات اللغوية التي تتحول مع الاستعمال إلى تعبيرات ثقافية حرة، ولا صلة لها بشروط نشأتها الأولى.

طبعا كلامي هذا سيردني إلى المقالة الأولى في هذه السلسلة، وهي المقالة التي قلت فيها عن تجربتي مع محمد صادق دياب للكتابة عن مصطلح السيميولوجية، وكيف نفهم هذا المصطلح بواسطة استخدام هذا المثل «اللي يختشون ماتوا»، حيث نلاحظ كيف استقلت العبارة عن ظروف نشأتها، وأصبحت قولا حرا قابلا للاستخدام حسب رغبات المستخدمين.

وهذا يشبه تحريك اليد اليمنى برفعها بمحاذاة الرأس، وهي علامة متعددة  الدلالات؛ لأنها قد تكون للسلام والتحية، وقد تكون للتحذير حينما يستعملها الشرطي؛ ليقول لشخص ما: قف، أو عكس ذلك، كأن يقول له: تقدّم، وربما تكون لغرض نفعي كأن يهش ذبابا، وهذه كلها معان متعددة بينما الحركة واحدة، والذي يقرر المعنى هو الحالة بين الفاعل لها ومن يستقبل هذا الفعل وطريقة تفسيره للحركة. وحسب المصطلح نقول: ثلاثية الدال والمدلول والدلالة.

هل أكون بهذا قدمت شيئا عن معنى السيميولوجية، أو علم العلامات، أو السيمائية، أو العلاماتية، وكل هذه ترجمات عربية متعددة لكلمة أو مصطلح واحد?

بقي أن أقول شيئا عن المثل إياه، وعن العقلية الثقافية التي تجنح إلى الظن بأن الماضي أجمل من الحاضر، وأن سيئات الحاضر لم تكن في الماضي، حتى إن أهل المروءة ماتوا ولم يعد للمروءة مكان.

وهذه أحلام رومانسية نعوض بها عن خيبتنا الذاتية ليس إلا. والحق أن الماضي والحاضر لا يختلفان من حيث السلوك البشري إيجابا أو سلبا، فالغدر والخيانة موجودان منذ زمن قابيل وهابيل، وقبله كان تكبر إبليس وغلطة آدم ونسيانه للتحذير، وفي مقابل ذلك كانت المروءة والشهامة. والكل موجود في الماضي وفي الحاضر معا، ولا فرق هنا في تعاقب السنين.

ولذا فإن اللي يختشون ما زالوا، وبجانبهم اللي ما يختشون قديما وحديثا