النقد الهادم


من نعم الله الكثيرة عليَّ أنه وهبني قلمي ومنحني سبحانه القدرة لأعبّر من خلاله عن قضايا ومعاناة بشر قد لا أعرفهم، سنوات من عمري تاهت وأنا أحيا بين الأوراق، وأعيش في أعماق الآخرين، فقد كنت أبكي لبكائهم، وأحزن لحزنهم، وأسعد لفرحهم، وأتألم لظلمهم، وكم لمست ضعف الآخرين وقهرهم، وكم من الصور التي رسمها لي الآخرون، فمنهم من أعجب بما أكتب، ومنهم من لم يُحب مقالاتي، ومنهم من كان يظن أن ما أكتبه تجارب شخصية، وآخرون اعتقدوا أن ما أسطره من وحي خيالي، ومنهم من صوّرني بالقسوة والجبروت والعناد والتكبّر، ومنهم مَن نعتني بأنني عدوة الرجل، ومنهم مَن قال إنني نصّبت نفسي محامية للمرأة.

كلها آراء ووجهات نظر أحترمها وأقدّرها وأضعها دومًا نصب عينيَّ، فهناك من أسدى إليَّ نصيحة استفدت منها، ووظّفتها لصالح موضوعاتي، ولله الحمد والفضل، فأنا عندما أقدّم أي عمل، سواء كانت مقالات أو إصدارات أدبية أو دورات تدريبية، باختصار عندما أنجز أي إنجاز لا أدّعي فيه الكمال، فالكمال لله وحده، لكن يظهر معظم التقييم إيجابيًا، ونسبة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة تكون سلبية، وتراني لا أفكر بما حققته من نجاح، لكن أمضي وقتي أفكر في النقد وأراجع وأعيد وأرتب أفكاري، وأكتشف نقاط ضعفي لأصلح من نفسي، وأتساءل هل النفس البشرية هكذا تطمح دومًا للكمال؟ وإلا لماذا أحزن على القليل ولا أسعد بالكثير؟ لكنني أعرف نفسي تمام المعرفة بأن أقصى ما كان يؤلمني ليس النقد بحد ذاته، بل ما يؤلمني -ولا يزال- هو طريقة وأسلوب الطرح الذي يمسّ شخصي، وليس قلمي أو فكرتي أو عملي، ولا أدري لماذا لا يمتلك بعض الناس الكلمة الطيبة لو أرادوا تقييم الآخر! وهل السفاهة والتلفظ بألفاظ نابية يشفي غليلهم، أم أن هذه طبائع وسلوك تعوَّد عليها البعض؟ وإلا لماذا لا يتم إبلاغ الرسالة بصورة تربوية ومؤدبة، ويكون النقد واضحًا، ونسمّي الأشياء بأسمائها في إطار الأدب الإسلاميّ، وفي إطار الشعور بالمسؤوليّة الأخلاقيّة، وتذيل بالاسم الصريح وبتقديم النقد الهادف للعمل وليس للشخص، إلا إذا كان المقصود هو تجريح إنسانية الإنسان. وقد تناست هذه الفئة أن بعض الظن إثم، وأن كل كلمة سببت الأذى والألم للآخر سيحاسب عليها، وفي نفس الوقت تجاهلت هذه الفئة قول الرسول الكريم إن الكلمة الطيبة صدقة.

وتذكرت قول جبران خليل جبران «وعظتني نفسي فعلمتني ألا أطرب لمديح ولا أجزع لمذمّة، وقبل أن تعظني نفسي كنت أظلّ مرتابًا في قيمة أعمالي وقدرها حتى تبعث إليها الأيام بمن يقرظها أو يهجوها، أما الآن فقد عرفت أن الأشجار تزهر في الربيع وتثمر في الصيف ولا مطمع لها بالثناء، وتنثر أوراقها في الخريف وتتعرّى في الشتاء ولا تخشى الملامة».

فشكرًا لكل من ساعدني أو وجّهني أو حتى نصحني في لحظة بقصد أو من دون، شكرًا لكل من ذكرني بخير من خلفي، قبل أن يذكرني بالخير من أمامي.

 

أنين الحق

أيها الناس أغلقوا محاكم التفتيش في أذهانكم، وأوقفوا ثكنات التجسس والاستخبارات في عقولكم، وارفعوا المشانق التي نصبتموها للآخرين، ويا أيها الكُتَّاب أغمدوا أقلامكم عن التجريح والتشويه والهمز واللمز والغمز، ولا تحكموا إلا ببيّنة كالشمس في رابعة النهار {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، أما الظنون والأوهام والوساوس فهي تليق بمرضى النفوس، وفقراء القيم، وخواة الضمائر.

د.عائض القرني

 

همس الأزاهير

تعمَّدني بنصحك في انفرادية

وجنبني النصيحة في الجماعة

فإن النصح بين الناس نـوع

من التوبيخ لا أرضى استماعه

وإن خالفتني وعصيت قولي

فلا تجزع إذا لم تعط طاعـة

الإمام الشافعي