نشرة ساعة الذروة


السابعة والنصف، أتجمد من البرد، ياقة السترة المبطنة والقبعة الصوفية لا تقياني صقيع الخريف الباريسي القارس، أحلم بوجبة ساخنة وسرير دافئ، نهاري كان شاقا، رجلاي تحملاني بالكاد، ولا أستطيع أن أتزحزح من مكاني، يمكن لقطاري أن يأتي في أية لحظة.

دفنت وجهي بين طرفي الياقة المرفوعة، ونظرت حولي بنفاد صبر، منذ أكثر من ساعة وأنا أنتظر، مراقب المحطة أكد لي أن القطار سيأتي، لكنه سيتأخر، «أمر متوقع، أنت محظوظ لأنك ستبيت في بيتك...».

تلك كانت كلماته، أنا محظوظ حقًّا؟ لا فكرة لديه عن جحيم يومي.

غادرت القرية التي أستأجر غرفة في إحدى بناياتها في الخامسة صباحًا، انتظرت القطار خمسًا وثلاثين دقيقة، وصلت إلى الضاحية الباريسية في السابعة والربع، غيرت الباص ثلاث مرات، ومشيت نحو خمسمائة متر في جو انخفضت حرارته ست درجات تحت الصفر قبل أن أصل إلى كليتي، اجتزت الامتحان الدوري في الأعمال التطبيقية ببطن فارغ، لم أركز كما يجب، واقترفت بعض الحماقات، لم أستوعب الكثير في الدرسين النظريين اللذين حضرتهما بعد ذلك، أكلت ساندويتشًا وشربت كوبي قهوة أعادا إليّ بعض النشاط، حضرت المزيد من الدروس، وحاولت أن أتقدم في بحثي، المكتبة كانت شبه فارغة، والأساتذة الذين حاولت الاتصال بهم كانوا منشغلين.

لم أستطع أن أعرض نتائجي على أحد.

الحياة توقفت من حولي، موجة البرد التي تزامنت مع الإضراب العام شلت الحركة في المدينة الجامعية، وفيما حولها.

حاولت أن أحرك قدميّ؛ لأشعر ببعض الدفء، ولم أستطع؛ البرد جمدهما تمامًا، قلبت عيني في الركاب القلائل الذين توزعوا على الرصيف، ننتظر نفس القطار، ويتساءل كل منا في ركنه عن سبب هذا التأخير الطويل... هل ألغيت الرحلة؟ هل حدث طاريء في الطريق؟

لمحت بطرف عيني شخصين يجوبان الرصيف ويقتربان منا، أحدهما يحمل كاميرا، اقتربا من رجل لوَّح بيده بعصبية رافضًا أن يتحدث إليهما، وأدارت لهما سيدة بدينة ظهرها، وكنت أنا التالي.

لم يسبق لكاميرا تليفزيونية أن استوقفتني، لم تنتبه إليَّ عين صحفي، ولم يسألني أحد عن رأيي فيما يحدث من حولي.

اقترب الصحفيان؛ رجل وامرأة، ولمحت شعار القناة الثانية على الكاميرا.

«من فضلك، سيدي...» قالت المرأة بنبرة مؤدبة للغاية.

«هل تمانع في أن تتحدث إلينا؟ نحن نعد تقريرًا لنشرة الثامنة...».

نشرة الذروة! بالتأكيد لا أمانع... فرنسا كلها ستراني، وأهلي... يجب أن أكلمهم، يجب أن يتفرجوا عليّ...

«ما رأيك في إضراب النقل؟ هل تؤيده؟ هل يؤثر على حياتك؟».

ابتسمت وأخرجت يدي من جيبي، وتحركت لأقف في الزاوية التي أشار إليها الكاميرامان، لم تعد ساقاي متصلبتين، نسيت البرد، والجوع، والتعب، وضغط ساعات النهار الثقيلة، نسيت قلق انتظار القطار، وطول الرحلة التي تنتظرني، وقصر فترة الليل التي يفترض أن أرتاح فيها، وأراجع ما درسته، وأستعد ليوم صعب وبارد وكئيب.

نسيت كل شيء، ولم أعد أفكر سوى في والدي وعائلتي التي ستتفرج عليّ من المغرب، وتطمئن على صحتي، وتتفاخر بما وصلت إليه، صرت أظهر في نشرة الأخبار، أتحدث بطلاقة، أقول رأيي، ويستمع الفرنسيون لي.

استفضت في الحديث، ولم تقاطعني المرأة الباسمة، كانت لطيفة جدًا وهي تطرح عليّ الأسئلة، وتشجعني على الحديث بحرية وعفوية.

قدم القطار، ولم أره، لكنني لمحت الركاب القلائل يبتعدون بسرعة، لم أكترث لهم حقًا، تابعت حديثي، وتقبلت بانشراح شكر المرأة وزميلها، وشيعتهما بنظراتي قبل أن ألتفت حولي، وأجد المكان مقفرًا.

«لا قطار قبل الغد» أكد لي مراقب المحطة، ودرت حول نفسي بضع دقائق قبل أن أبتعد وقلبي مقبوض.

لأول مرة في حياتي قضيت الليل متسكعًا مثلي مثل المشردين، لم أرتح، ولم آكل، شربت بعض القهوة، وانتظرت حلول الصباح لأسرع لخط الباص المتجه إلى الكلية.

اتصلت بأهلي عبر نت المكتبة، وأخبرتهم أنني أدليت بحديث إلى القناة الفرنسية الثانية، صرخ أخي من الذهول وقال إنه سيتتبع برامج القناة من اللحظة وإلى ساعة نشرة الثامنة، وسيسجل النشرة، ويدعو كل معارفنا لمشاهدتها.

حماسه أنساني تعب الليلة، صبرت قدر ما استطعت طيلة النهار، وهرعت أول ما أنهيت دروسي إلى المحطة.

ركبت القطار، ولم أتذمر من التأخير، وكنت في غرفتي في وقت معقول أمام التليفزيون.

مرت النشرة، بث تقرير المحطة، ولم أظهر على الشاشة، تحدث أناس آخرون، وحذف المشهد الذي صورته.

أطلقت شتيمة مدوية، وأغلقت الجهاز.

يا لي من أحمق!