(جرائم) ملحّنة... فارس كرم "سيذبح" عنتر!



تستمر حالة (الدبيك) التي تضرب الأغنية اللبنانية كونها الأبرز شامياً... وبما أن الحديث عن "الدبيك"، لا بدّ من التوقّف عند (الدابك) الأول فارس كرم، أحد روّاد هذا اللون الغنائي الذي يلقى إقبالاً شديداً من المتعطّشين لتفريغ شحنات الغضب الكامن في ماضيهم أو في حاضرهم... فالأغنية جزء من الحالة "التهوّرية" السائدة والمنبثقة عن العبثية، والفوضوية المتركّزة في الصورة، والتي ساهم أهل الطرب بمنتوجهم الحالي في تمتينها وتفعيلها لتصبح واقعاً.
يغني فارس كرم للحبيبة قائلاً: "لاذبحلك عنتر وأهديك راسو"... أي هدية هذه لو أخذنا الكلام بحرفيته؟ وأي تعبير هذا الذي يجسّده كرم من خلال لحن قد يكون للوهلة الأولى مفرحاً وراقصاً، لكن أين الشاعرية في هذا الكلام غير المسؤول والمحرّض الذي يجعل من الجملة المغنّاة على لسان المطرب جملة سهلة ليتلقّفها المستمع القابل لهضم هذا النوع من الأغاني؟ ليس وحده فارس كرم من استعرض طريقته للقتل بل سبقه كثيرون كالفنانة نوال الزغبي التي رأت من خلال أغنيتها أن القتل وسيلة للراحة (برتاح منه بقتله)، وكانت عودة محمد اسكندر مظفرة ومرفقة بأسلحة خفيفة كالمسدس حسب ما جاء في أغنيته (براسه بخرطش فردي) أي أضع المسدس في رأس من ينظر إلى الحبيبة المفترضة. ماذا يحصل؟ هل هناك حد أدنى من الفهم لمضمون هذه الأغاني وأين هي من أشعار الأغنية الحقيقية؟
الغريب في الأمر أن الأغنية اللبنانية كانت غنيّة بالصور الشعرية الناعمة والزجل الراقي، والمواويل البديعة التي بنت حالة من الذوق أرخت بظلالها على مفاصل الحياة اليومية وجعلت من المجتمع صورة نعود إليها حين نتعب ممّا "يغتصب" آذاننا ونظرة عيوننا بتلوّث لفظي في مفاصل كثيرة من الحياة اليومية، فلطالما كانت الأغنية مصدر تثقيف وصور تغني خيال السامع ليرى من خلال صوت المطرب ما رآه الشاعر حين كتب قصيدته، كما في أغنية وديع الصافي على سبيل المثال:  بالمرجحك مع زرقة النسمات)
علّها الحروب ومفرداتها؟ علها الفوضى وتداعياتها؟ التعليلات كثيرة لكن الجمال لا يتجزّأ، والألوان لا تتغير وسيبقى الجبل جميلاً بنقائه والبحر بمداه وزرقته، والسهل سيبقى مصدراً للجمال الطبيعي، وسيبقى النهر جارياً والعصافير ستزيد من زقزقتها رغم انفلات الصيادين عليها. ولا بدّ من العودة إلى الذوق وهو قانون إنساني لا يحتاج إلى شرطي لتنفيذه.... فهل الذبح لا تحتمله أغنية وقطع الرؤوس لن يكون طقساً في أغنية، كان الأجدى بفارس كرم أن يحفظ أشعار عنترة (فريسته/ضحية) ويقولها لمن يحب وسيرى انعكاس ذلك ومدى الفرق الذي ستحدثه كلمات ذلك الفارس الحقيقي والشاعر الذي عاش شعره مئات السنين . أليس عنترة من قال(ولقد ذكرتـك والرمـاح نواهـلمني
وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيـل السيـوف لأنهـا
لمعت كبـارق ثغـرك المتبسـم
الموسيقى عالم آخر، والشعر لغة الحياة القادرة على التوغّل في عمق البشر، الموسيقى أشياء لا تموت...
مستقبل الأغنية العربية... "تركي"!
لطالما كانت الموسيقى وستبقى جزءاً من الهوية الوطنية، ولكن يبدو أن الحفاظ على الهوية الغنائية لم يعد من أولويات القيّمين على الموسيقى، والأمر يؤكّده شكل الإنتاج الموزّع في الأسواق الغنائية، وكيفية التعامل مع المنتج الغنائي.
خطر العولمة لم يجد مؤسسات قادرة على مواجهته، والجهات المعنية بالثقافة فوّتت فرصة القيام بواجباتها، فلم تبذل جهداً للحفاظ على الموروث وتشجيع الأعمال ذات الطابع المحلي من خلال تقديم مسارح أو مهرجانات تعرض الفنون الخاصة بأطر متطورة، بل على العكس، تركت الساحة للمنتج الذي يسعى للبحث عن التجديد بمفهوم إغراق السوق بسلع خفيفة مضمونة الربح، على طريقة تجّار الجملة.
هذه العوامل قذفت بالأغنية في مهب الريح... فلا تراث للأجيال القادمة سوى لقلّة من باحثين يغريهم التعرّف على التاريخ العربي الغنائي الذي نعود إليه بصيغ مختلفة... البعض يرى في حالات انعدام القدرة على الإنتاج وتوفّر التراث كمادة للتجريب فرصة (للعبث) بتراث سيد درويش وغيره من أبناء جيله الذين أوجدوا شخصية الأغنية العربية وأخرجوها من الإطار التركي الذي كان سائداً قبل العشرينيات من القرن الماضي، وآخرون اكتفوا باللجوء إلى هذا الموطن الآمن الذي يرضي موهبتهم، ويؤمّن لهم جزءاً قليلاً من كعكة الجمهور النخبوي الذي بدوره يهرب نحو هذا اللون، كونه الأقل ضرراً على إنسانية الفن.
اليوم نجد أنفسنا مسرحاً لحالات فنية مركّبة، فقد عاد تأثير الحالة التركية التي كرّسها المسلسل التركي بشكل واضح على مفاصل الفنون، إلى جانب سرقة الألحان التركية بكامل تفاصيلها.
العدوى التي تسري بين المطربين تشبه "الكوليرا" حين تصبح موجة... فحين (تضرب) أغنية لأحدهم يقوم الآخرون بـ "اجترار" الفكرة و"علكها" لتفريغها من أي محتوى، وفي حال نجاح أغنية من أصول تركية يندفع الجميع خلف هذا النجاح باحثين عن ألحان تركية ليقدّموها كأغان عربية، فتؤثر هذه الفوضى على شخصية المتلقّي، وتشتّت ذوقه، فيفقد القدرة على التمييز بين تراثنا وبين ما هو مستورد "بنكهة" عربية .
ناهيك عن خطر إضافي آخر يكمن في استقدام عازفين أتراك إلى الفرق العربية لتأدية "صولوهات" مع كبار المطربين، بعيداً عن فكرة التحاور بين الموسيقى العربية وقرينتها التركية، بل على حساب الموسيقى العربية التي أصبحت في بعض الأعمال مجرد (خلفية) لواجهة تركية ممثّلة بآلات القانون والناي والبزق والكمان. وما أن تستعين أوركسترا عربية بعازف تركي حتى تصبح موضة عند الجميع ليمشوا على نفس الدرب مستعينين بعازفين أتراك. لا بد أن يترك هذا الأمر أثراً سلبياً لدى الموسيقي العربي الذي يهمّش أحياناً حين يرى أن ليس هناك من وجود أساسي له ضمن المسرح فيتأثر الإنتاج الإبداعي الفردي ضمن المجموعة.
الغرابة في الأمر تكمن في ترسيخ الإحساس المستورد الخاص بالمنتج المحلي ونزع الأثر المباشر للموسيقى العربية عن المستهلك الذي يعتاد على ما تقدّمه وسائل الإعلام غير المعنية بالحفاظ على أي من مكوّنات الصمود الثقافية بوجه التأثيرات القادمة من الشمال.
من الممتع أن نستمع إلى كافة أنواع الموسيقى بإطارها الحقيقي على أساس المعرفة... لكن ليس لدينا من يضع أطراً لهذه الحالة ليتّضح ما هو لنا وما هو علينا.
بقي لنا أن نسأل: هل سيبقى لهؤلاء الفنانين أثر بعد عقد أو أكثر؟ والجواب: لن تستطيع الأغنية بشكلها الحالي أن تصبح تراثاً للأجيال القادمة، ولن تكون سوى أغانٍ لا صلة لها بماض أو حاضر، من دون أي أثر على مستقبل المتلقي الذي سيكتفي باللحاق بالجديد، وقد يهرب إلى فنون أكثر التصاقاً به من ناحية الحداثة الكامنة بالمنتج الغربي، لتبقى الموسيقى العربية رهينة بأيادي مجموعة من العابثين والباحثين عن المردود المالي المتوفّر في أوساط ليس التراث من أولوياتها، ولا تولي أهمية للقيم الفنية التي تعكس صورة أفضل للمجتمع الذي انسحب خلف فوضى فنية تنعكس على ذوق الشارع العربي المتروك لأمواج التغيير، دون تحديد الوجهة النهائية.