رقة المطارق

نجاة غفران

 

سألها سائق سيارة الأجرة إن كانت متأكدة من العنوان، المكان مهجور في ضواحي المدينة، بضع مبانٍ غير مكتملة، موزعة هنا وهناك في أرض براح تنبت فيها أعشاب يابسة، غادرت السيارة شاكرة وطلبت من الرجل أن يعود لها في نهاية الظهيرة، قدرت أن أربع ساعات تكفي وتزيد لإنهاء المهمة.
تقدمت نحو المبنى الذي ركنت قربه عجلة نارية ضخمة، حيطان أسمنتية منفرة، بوابة خشبية متهالكة، وغبار يكسو الأرضية الصخرية المتشققة، اقتربت وسمعت صوت المطارق الرتيب، دقات متتالية تتصاعد بعناد كاسرة صمت الضاحية المهجورة.


هل سينتبه لوجودها؟ لا زر ينبئ بوجود جرس على البوابة.
تنفست عميقاً وحاولت تجاهل ثقل حقيبتها، أحضرت عدتها معها بالكامل، آلات التصوير الثلاث والمسجل والحاسوب الخاص والميكروفون الصغير والمفكرة الضخمة وملف المقالات، الذي نشرت عنه في الصحف والدوريات الخاصة.
اتكأت بذراعها اليمنى على البوابة وارتفع صريرها وهي تنفتح بهدوء، لم تكن مغلقة، تقدمت نحو صوت المطارق المتعالي برتابة محبطة.
لم ينتبه إليها، جسده منكب بالكامل على المجسم الصخري الذي كان ينحته، قميصه القطني الخفيف مبلل بالعرق، ووجهه المخفي خلف كمامة بيضاء متسخة، منحن على تحفته غير المكتملة، شكل أنثوي نصفي.
اقتربت أكثر وتنحنحت، ورفع عينيه عندما تسمرت أمامه، عرفته بنفسها، وذكرته بموعدهما، هز رأسه بصمت وهو يضع مطرقته ويسحب كمامته نحو الأسفل.
صوره المنشورة لا تعبر عن حقيقة ما تعكسه ملامحه الرجولية الصلبة، قوة ورقة وغموض، مسح كفيه خلف بنطلونه الجينز المغبر، ومد يده إليها وهو يبتسم.
رأت عينيه تطرفان وهما تنظران لكفها البلاستيكية اليسرى، وهزت كتفيها وهي تبحث عن مكان تضع فيه حقيبتها الثقيلة.


تعودت على نظرة الناس إليها، ولم تعد شفقة أعينهم الراثية تثير حنقها كما قبل، حادثة سخيفة، كانت في المكان الخطأ، في الوقت الخطأ، عندما فقدت يدها إثر اصطدام الترامواي الذي كانت تستقله بشاحنة فقد سائقها التحكم في فرامله.
دعاها للجلوس قرب النوافذ، وتبعته وهي تتطلع حولها بفضول، أعماله الكثيرة تشغل مساحة الورشة الواسعة، مجسمات ثلاثية الأبعاد من الصخور والمعادن، منحوتات بالغة الرقة من الحديد المخرم، أشكال أطفال ونساء وطيور ومخلوقات خرافية بديعة، مطارق ومبارد مختلفة الأنواع والأشكال والأحجام، أزاميل ذات رؤوس مدببة ورفيعة، وسكاكين مسطحة وأخرى عريضة، أدوات لحام وأوانٍ لصب وتشكيل التحف.
جلسا على برميلين مقلوبين، قرب صف من النوافذ العريضة العالية، وضعت حقيبتها على الطاولة الحديدية الصغيرة أمامها، وبدأت تجهز للمقابلة.
حين اتصلت به تعلمه بأنها تود القيام بريبورتاج عنه، لم يبد متحمساً، سأل عن صحيفتها وأخذ رقمها وقال إنه سيفكر.


لم تسمع عنه قبل أن يحصل على جائزته العالمية في باريس، صفحتها التي تغطي الأخبار الثقافية موجهة بالخصوص لمتابعة المنشورات الأدبية، لكن، بعد الزوبعة الإعلامية التي أثارها حصول نحات مغمور على أرقى استحقاق عالمي يمكن أن يحلم به فنانو البلد، جرت تبحث عن أخباره وتحبس أنفاسها وهي تتطلع بانبهار لصور منحوتاته الصخرية المعبرة.
اتصل بها، خمنت أنه هو الآخر بحث عن أخبارها، وتعرف على مأساتها، ولم يرغب بكسر خاطرها.
لا يهم، قالت لنفسها، حصلت على سكوب الموسم، والشفقة لم تعد تشكل مشكلاً لها.


أجاب على أسئلتها بهدوء، استسلم لكاميرتها ولم يمانع في أن تأخذ صوراً له ولتحفه في كل الزوايا والأركان، عرض عليها بعد أن أنهت مهمتها أن تشاركه فنجان قهوة، وقام يحضرها وهو يواصل حديثه عن المواد التي يستعملها، وتلك التي يفضلها والأشكال التي يحلم بنحتها ونقش تفاصيلها الصغيرة بتأنٍ وصبر.
نظر إلى يدها البلاستيكية من جديد وهما يرتشفان القهوة، ورفعتها وهي تضحك وتثير انتباهه إلى أنها معمولة بشكل دقيق يجعل الكثيرين يظنون بأنها يدها حقاً، «انظر إلى الأظافر، تبدو حقيقية أليس كذلك؟ خصوصاً بهذا الطلاء.. أنا أغير لونه عدة مرات في اليوم..».


أمسك اليد الصناعية بلطف، وحدق فيها طويلاً، ثم رفع عينيه ورأت في حدقتيهما دموعاً.. نعم.. دموعا.
ودون أن تدرك ما تقوله، همست: « هل تعتقد أنه بإمكانك أن تصنع لي يداً معدنية خفيفة؟ شيئاً مخرماً.. تحفة أحتفظ بها لنفسي.. وأضعها عندما يحلو لي.. أحب ما تصنعه..».
«نعم.. سأفعل..»، همس هو الآخر، ولم يترك يدها.
تعلقت أعينهما ببعض، بردت القهوة، زمّر صاحب سيارة الأجرة في الخارج.. وبقيا ينظران لبعضهما بصمت ورقة.