بس بقى

جيهان كندي


من يعرف كواليس تجهيز أغنية (قارئة الفنجان) يعلم سبب قلق عبدالحليم وهو على المسرح وقتها.
فنان بحجم العندليب نعتقد أنه لا يقلقه غناء القصائد المقفاة، فالكلمات تذهب معه حيث يُريد، إما يُرسلها فتطير أو يُرسيها فترسو واقفة على قدم وساق، واستوقفتني عبارة (بس بقى) التي قالها للجمهور خلال حفلته الأخيرة، والتي اعتبرتها الصحافة (التي لا أدري بأي لون كانت وقتها) بأنها شتيمة وكلمة غير لائقة، مما دفع حليم للظهور بأحد البرامج للتوضيح والرد على النقاد المستائين، ومن يشاهد اللقاء يرى بملامح عبدالحليم اعتذاراً لخطأ غير مقصود.


قال وقتها ووضح بأن الأغنية كانت صعبة جداً، وأنها أخذت منه الكثير من أجل تطويع الكلمات للحن، وأنه عدل وحذف كثيراً في الكلمات مع نزار قباني، حتى ظهرت الأغنية لنا بهذا الشكل.
كان مسبقاً يعلم بصعوبة الأداء والتلقي.. وأن الأغنية تحتاج للاستماع بعيداً عن أي إزعاج.. وللأسف هذا ما حدث، فما إن وقف على المسرح حتى بدأ الجمهور بالتصفير المبالغ فيه، والمستمر، حتى وهو يغني.
فخرجت من حليم (بس بقى) وقامت بعدها الدنيا ولم تجلس.
لا أدري.. حقيقة عبدالحليم أنا أقبله كما هو بلا تجزئة، وكل ما يصدر منه جميل..


أداؤه.. وقفته على المسرح.. بدلاته البيضاء وتسريحة شعره.. حركات يده وهو يقود الفرقة خلفه، وكيف يعطي كل عازف فرصة ليقدم وصلته الموسيقية ويتألق.. وكيف يجمع بين الأضداد، لديه نظرة حزينة، وفجأة يضحك كل ما فيه، عندما يطلب الجمهور منه إعادة الكوبليه.. وبحركة بسيطة يفعلها بيده، وكأنه يرسم لوحة، تُعاد الأغنية من أولها بحب، وأكثر من مرة.
كل هذا الجمال والأداء المختلف والإحساس كفيل بأن يشفع لحليم عند محبيه، فلا تقلب المزاج ولا كلمة منه تجعلنا نأخذ عليه مأخذاً.


تأثرت كثيراً.... هل عبدالحليم يستحق أن يواجه تلك الانتقادات وقتها؟ هل كانت سبباً لقفل شهيته للغناء فكانت آخر حفلاته؟ هل الإزعاج فعلاً كان مرتباً له ومقصوداً؟ ومن يجرؤ على مضايقة عبدالحليم، (من)؟
كثيرة هي الأسئلة، ومتأخرة جداً الإجابة عليها وبلا فائدة، لكن لماذا لا نشعر بقيمة الأشخاص إلا بعد رحيلهم؟ فبعد وفاتهم يأتي التمجيد والتكريم أكثر من حياتهم وهم بعزهم ومجدهم.
(قارئة الفنجان) رغم قساوة الظروف وقت تنشئتها الا أنها تظل رقماً صعباً، من حيث الأداء واللحن والكلمات (مثلثاً ذهبياً) بين أعمال عبدالحليم حافظ. وأخيراً عبدالحليم ستظل ثالث (كل اتنين بيحبوا بعض).. وأغانيك يتبادلها العشاق... وستظل (غول) المسرح، بأدائك وإحساسك، لك هالة دافئة يشعر بها محبوك، وسيظل لك وضعك الخاص، وأعتذر لك نيابة عن الجمهور، وأقول لهم (بس بقى).