موسم الرحيل والحداد

سلمى الجابري

 

الكثير ينتظرنا في زمنٍ ما، والكثير سيأخذنا إلى كل الاستفهامات المفخخة بجذلٍ وحبور؛ فنحنُ لا يسعنا سوى المُضي قُدماً، ولا يمكننا سوى أن نتمطى من قبابِ الذاكرة بشهقةِ أمل.


لذلك لا يتوجب علينا أن نكشط سطح الجرح قبل السفر أو حتى بعده؛ فلنترك هذه المهمة الفدائية للأقدار وللأحداثِ التي نجهل وقوعها؛ فلنكتفِ بالابتسام، ولنصعد الطائرة بملامحَ بشوشة؛ فنحنُ لا نعلم من سنصادف في المقعد المجاور لنا.


فقط علينا أن ننسل من موسم الحداد ببياضٍ نجهله، علينا أن نغني للحياة وللنوارس أغنياتٍ لم نسمعها، علينا السير بين زحام الوجوه بملامحَ ملونة، علينا ألا نظهر عورة وجعنا للعالمين، علينا البكاء بصمت، والصراخ بصمت، والكتابة بصمت، والرحيل أيضاً بصمت، علينا أن نشرع للصمتِ عمراً مضى وعمراً سيأتي؛ فنحنُ سيلزمنا الكثير لنصمت، وهذا هو عزاؤنا الوحيد أمام كل هذه الحرائق التي تُضرم بداخلنا.


علينا أن نولد من جديد، أن نخلق ذاكرة من الفراغ، أن نرقص للماضي، علينا أن نبتسم بطفولةٍ، بمراهقة، وبشيخوخة، علينا أن نكون لا نحن؛ حيثُ يتوجب علينا أن نكون نحنُ، علينا التحرش بكلِ الأمورِ الهامدة؛ حتى لا نخشى مهابة الموت التي تتربص بنا على حين غِرّة منّا، علينا أن نطفو فوق سطح الأشياء، علينا الحذر من الغرق ومن العوم نحو النهاية، علينا أن ننتصف في كل التفاصيل حتى نبقى ونحيا.


جميعنا نتمنى أن نهاجر إلى أقاصي جغرافيا الفرح؛ تاركين خلفنا كل هذا الغياب الفضائحي بكلِّ جسارة؛ فهذا هو موسم الرحيل والسفر، موسم القطيعة والنسيان، موسم اللاعودة والمشاعر الغيبيّة، موسم المواجهة الاصطدامية بالذاكرة، سننجح في اجتياز هذه التفاصيل الغابرة رغماً عنّا وبالجملة.