ادفع ثمن نجاحك

نجاة غفران

 

رجعت برأسي للوراء ونفثت دخان السيجار ببطء وأنا أتأمل لون السماء، زرقة لازوردية صافية.. حالمة.. وعميقة، تنهدت والثقل إياه يعود ليجثم على صدري.
«هربت.. كعادتك، الوالدة تبحث عنك..».
أخي يتعقبني.. كعادته هو أيضاً، سئمت من كل هذا..».
«لا يجوز أن تترك ضيوفك وحدهم، هيا.. لنعد..».
لا رغبة لي في رؤية أحد.
ترى ماذا تفعلان؟ كيف تقضيان هذا اليوم الربيعي الجميل؟ هل تمطر هناك؟ هل تفكران مثلي.. في كل هذا؟
نظرت لأخي وهو يهز كتفيه بامتعاض ويجلس أمامي دون أن أدعوه لذلك، «هربت» إلى هذا الركن القصي من الحديقة لأخلد لنفسي.. سئمت من الناس، من العائلة، من نفسي.
ضحكات أطفال إخوتي، عند حوض السباحة، تتعالى بمرح، الوالدة تنادي أحدهم، والخدم يروحون ويجيئون.
«ما بك؟ متى ستجالس خطيبتك؟ ما كل هذه الفجاجة؟».
أخي يزنّ على دماغي، بعد أمي وأخواتي.
«أولاً.. الآنسة التي تتحدث عنها ليست خطيبتي، هذه الوليمة هراء، سايرتكم لأبعد الوجع عن دماغي، ولكن يبدو لي أن النتيجة واحدة في النهاية..».
«نحن قلقون عليك.. أنت وحيد.. وكل هذا العز والثراء لا يعني شيئاً.. دون أسرة..».
سحبت نفساً من السيجار وأنا أحملق حولي بشرود، لست وحيداً، لدي ابنة، وقريباً ستعود مع والدتها.
كلما تأملت ما وصلت إليه أشعر بالضيق والانقباض، عشرون سنة من الكد والعمل، ملايين متراكمة في البنوك، أملاك وشركات وسمعة جيدة، وتجارب زواج بئيسة.
بعد انفصالي عن أم ابنتي، ارتبطت بسكرتيرتي الجميلة، ابنة العشرينات التي كانت السبب في تراكم المشاكل بيني وبين طليقتي، زاهية لم تتقبل يوماً سفرياتنا الثنائية، ولا عشاءاتنا المتأخرة مع الزبناء، ولا اتصالاتنا الكثيرة. لم تكن ضحى، السكرتيرة، أكثر من مساعدة ممتازة بالنسبة لي، لكن غيرة زوجتي حولتها إلى غريمة، وجدت نفسي ألجأ إليها حينما انتهى كل شيء بيننا.
وتلك كانت غلطتي الأولى.
ضحى أرادت أن تخرج وتلهو وتتزين وتسافر وتصرف بالطول والعرض دون أن تبذل أدنى جهد لإنجاح زواجنا، اكتشفت فيها امرأة أنانية ومادية إلى أبعد الحدود.
لم تطل علاقتنا، طلقتها بعد حين، وأمضيت زمناً لا أعبأ فيه بشيء غير أعمالي، أراكم الصفقات وأوسع نشاطاتي وأشتري الأملاك وأراقب أرصدتي وهي تتضاعف.
جمعتني الصدف ذات سفرية بجاكلين، المهندسة الفرنسية الحسناء التي عرفت كيف تملأ وحشة سنين الوحدة العاطفية التي راكمتها.
جاكلين.. غلطتي الثانية.
علاقتنا كانت صفقة من بين صفقاتي.
تزوجنا واستمرت شراكتنا سنين طويلة قبل أن نضيق ببعضنا، جاكلين أرادت أن تعيش شيئا آخر، وأنا.. أنا لم أعد أشعر بالاكتفاء العاطفي منذ دهور.. منذ زاهية بالتحديد.
أنهيت سيجاري والتفتّ إلى أخي الذي ظل جالساً أمامي، يراقبني بامتعاض.
«إلى متى يا رجل؟ لماذا تكدس كل هذه الأموال إن كنت تريد أن تعيش وحدك؟ الوالدان قلقان جداً عليك.. ونحن أيضاً..».
وقفت ببطء ورفعت ذراعي للأعلى ونظرت من جديد للسماء.
«قريباً ستعود ابنتي وأمها من أسبانيا، وستتغير الأمور..»، قلت لأخي وأنا أبتسم.
منذ أربع سنوات وهما هناك، زاهية رافقت البنت لإنهاء دراستها الجامعية في مدريد.
«ماذا تقصد؟ وخطيبتك؟ والناس الذين دعوتهم للغذاء؟».
لم أدعُ أحداً، الوالدة التي تحاول منذ زمن أن تجد عروساً جديدة لي، هي من رتبت كل شيء.
نظرت لساعتي وقلت لأخي: «سأعتذر للناس وأغادر، لديّ ما أقوم به في المكتب، وسأكلم ابنتي.. هي تنهي امتحاناتها الآن..».
عما قريب.. ستعودان.. وسيكون لي حديث مع زاهية.
لم ينبس أخي بكلمة، كان يعلم، ابنته قريبة جداً من ابنتي، والفتاتان تتحدثان طوال الوقت.
لكنه لم يقل شيئاً.
كان عليّ أن أنتظر عودة ابنتي وحدها لأدرك حجم الكارثة.
فتاتي عانقتني بشدة، وتجاهلت عينيّ اللتين كانتا تتلفتان خلفها بحثاً عن أمها.
«أين أمك حبيبتي؟» سألتها وقد انقبض صدري.
«ماما لن تعود بابا.. بقيت مع الخال محمود.. هل تتذكره؟ صديق عمي الذي ساعدنا على العثور على سكن.. سيتزوجان..».
لم أسمع ما قالته بعد ذلك.
لم أعرف ما قمت به بعد ذلك.