عوالم

نجاة غفران

 

هل نحن أسرة طبيعية؟ كثيراً ما أطرح هذا السؤال على نفسي. نحن نحب بعضنا، أعرف ذلك، لكن كثيراً من الأمور التي تقع في بيتنا لا تبدو لي عادية. والدي يعيش في كوكب آخر. لديه مشاغله الكثيرة التي تبعده عنا، أو ربما يتهيأ لي ذلك، لأنه في النهاية... أجده دائماً معنا، بنوبات غضبه، وهذيانه، وشروده، ومشاحناته الكثيرة مع أمي وأخي. والدتي مخلوقة من نوع آخر. لديها لحظاتها الخاصة. تعيش معنا... وبعيداً عنا. والأمر لا يتعلق بمسافة مادية. لا. أحياناً نراها قربنا لكنها، مثل أبي، تتحرك في عالم موازٍ، وتبدو كما لو أنها ترانا ولا ترانا. يصعب علي شرح الأمر ولكنني أعرف أن لديها هي الأخرى عوالمها الخاصة وقصصها التي تتشارك بعضاً منها معنا، أحياناً، عندما تكون رائقة المزاج.
بقي أخي. المراهق الثائر الذي لا يعجبه أحد، بداية بشخصه الكريم. لن أتحدث عن قصات شعره العجيبة، ولا عن الأشياء الغريبة التي يخضع جسده لها. أخي قنبلة موقوتة في البيت. أعرف أن أموره ستنتهي بشكل سيئ. أحس بذلك. وأحاول أن ألفت نظر الوالدين للأمر بشكل دبلوماسي، لكن ينبغي أولاً أن يتركا عوالمهما الموازية ويحضرا دنيانا ليفهما ما أقصد، وليريا بعيونهما ما يحدث، ولكنهما لا يرغبان، أو لا يكترثان، والأمر سيان بالنسبة لي لأن الوضع يسوء أكثر فأكثر في كل الأحوال.
لا أريد أن أدعي بأنني الشخص العاقل الوحيد في العائلة، لكن الوضع يثبت ذلك.
هذا الصباح، استيقظت على وقع صراخ والدي.
تنهدت وأنا أتخيل مشاحنة سخيفة مع أمي. قهوة باردة، أو صحن بيض محروق، أو شطائر غير مملحة. حاولت أن أعود للنوم لكن الصياح لم يتوقف. نهضت أستطلع الأمر ولاحظت أن باب غرفة أخي لا زال موصداً. لن يقوم من فراشه ولو تزلزلت الأرض تحت قدميه. قضى ليلته كالعادة سهراناً مع شلته الغريبة المتوزعة في أركان الدنيا الأربع. لديه حسابات إلكترونية كثيرة في مواقع الألعاب العنيفة، وجولاته تستمر فيها لطلوع الشمس أحياناً، ووالدتي تكلف نفسها مرات بإجباره على النهوض للحاق بدراسته، ومرات كثيرة لا تعبأ بذلك.
والدي لا يلقي له بالاً. مادام جيداً في دراسته... أخي أعجوبة بالنسبة لي، هو ذكي للغاية وتفوقه الدراسي عصي على الفهم، رغم غيابه الكثير وقلة اكتراثه بدروسه.
صياح والدي مستمر. طرقت باب غرفته ودخلت.
أمي غارقة في موجة ضحك هستيري، وأبي يضرب السرير بساقيه ويحاول أن ينهض دون أن ينجح في التخلص من الأغطية التي التوت حول جسده.
«أمك مجنونة» صرخ بي حانقاً، «كنت غارقاً في النوم عندما شعرت بصفعة قوية تلسع جبيني وأصابع حادة تضغط على أنفي وتشد شفتي وجفني... أنظري لوجهي... أمك حسبتني منبهها... أي جنون هذا؟»
أمي تواصل الضحك وعيناها تدمعان، وأبي يفلح أخيراً في الخروج من السرير وهو يرغي ويزبد.
رفعت عيني للسماء وتركتهما. من الجيد أنهما أيقظاني بصياحهما. أمامي محاضرات كثيرة في الجامعة.
نظرت لأخي الذي تبعني إلى المطبخ. قميصه الداخلي يعري كتفيه المغطيتين بسيل من الشامات البنية.
«منذ متى نبتت كل هذه الشامات في جسدك؟ سألته بدهشة وهز كتفيه وهو يفتح البراد ويتناول طرف حلوى وعلبة مشروب غازي، فطوره المفضل، «منذ أن أجبرتني والدتك على زيارة طبيب الأمراض الجلدية. قالت إن عليّ أن أزيل الشامة المشعرة أسفل عنقي، وقمت بإضافة الشامات الأخرى وقلت للطبيب إن بعضها طبيعي وبعضها تاتوهات وتركته يكسر دماغه ليفرق بينها. ضحكت كثيراً...»، أخي مخلوق جاء من عالم آخر. نتيجة طبيعية لغرابة العائلة.
تناولت قهوتي وجريت خارجاً وأنا أعض شطيرة خبزي. سأكون محظوظة إن لحقت بحافلة الثامنة والنصف.
لم يحدث ذلك طبعاً. وصلت متأخرة للمحاضرة، ومر الوقت سريعاً حتى انتبهت، وسط الظهيرة إلى رسالة بعثتها أمي على هاتفي «ميسون في المستشفى، حالتها خطيرة».
ميسون هي أنا. ظننتني أهذي، وفركت عيني وأنا أعيد قراءة الرسالة. الكلمات واضحة، وأنا... أنا... تفحصت جسدي بقلق... أنا بخير. لا أشكو من شيء. ما الذي يجري في العائلة؟
انسحبت من المحاضرة، وخرجت لأتصل بأمي وقلبي يخفق. لم ترد علي. كررت الاتصال عشرات المرات. وبعثت لها رسائل متتالية. ولم أحصل على رد.
ماذا يجري؟
تملكني القلق وتخيلت ما حدث. أخي الأحمق في خطر. تاتوهاته تسببت في تسمم جلدي أدخله المستشفى، وأمي، بشرودها المعروف، كتبت اسمي في رسالتها عوض اسمه.
تركت الجامعة وهرعت إلى البيت والعرق البارد يتصبب من جسدي. لم أجد أحداً هناك. حاولت من جديد الاتصال بأمي، وأبي، وأخي الراقد على سرير المرض... دون جدوى. حملت بعضي في النهاية وجريت إلى أقرب مستشفى وسألت عنه. لم تكن لدي طبعاً أية فكرة عن عنوان المستشفى الذي استقبله.
استمر الكابوس حتى المساء. زرت كل مستشفيات المدينة دون أن أعثر على أخي.
رجعت إلى البيت في حالة مزرية، وسمعت صوت التلفاز من المدخل.
جريت إلى غرفة المعيشة لأجد والديّ يتناولان وجبة خفيفة، وأخي يتابع مباراة في التلفاز.
سألت عما يحدث وأنا أرتجف، ووبخني أبي لأنني أزعجته باتصالاتي وسط اجتماعاته، والتفتت لأمي أسألها عن الرسالة التي بعثتها لي، وهزت كتفيها باسمة وهي تقول «الرسالة كانت موجهة لأبيك حبيبتي، أخطأت في بعثها لك... أردته فقط أن يرد على اتصالي. تعرفين كيف يكون عندما يذهب إلى المكتب. يجب إخافته ليأخذ الاتصال...».
لو كان بإمكاني أن أصرخ... لفعلت.
لكنني بلعت حنقي، وأغلقت باب غرفتي ورائي وأنا أرتجف.