هل يتكلم الحجر؟

نجاة غفران


«لا أصدق أنني هنا...» فكر الصبي وهو يركل طرف صخرة حادة بقدمه، ويئن متوجعاً وعيناه تحومان حوله «لا أدري ما الذي يمنعني من الانقضاض عليه. العجوز اللعين... من يظن نفسه؟ سأكلم بابا عندما يعيد إليّ الهاتف... ليس من حقه مصادرته. سيتصرف بابا.... وسيطردونه... تباً له...».
ابتعد وهو يجر قدمه بغيظ. الحصى الصغير المنزلق تحت قدميه أوحى له بفكرة. لا أحد يتأمر على ابن أكبر تجار المنطقة. لم يولد بعد من يرفع صوته عليه ويصادر أغراضه.
نظر خلفه شزراً وهو يبتعد.
الصبية الجالسة في ظل الصخرة التي ركلها كانت تتفحص كومة الحجارة الصغيرة التي جمعها زملاؤها. أطراف جرانيت دقيقة... سوداء وبيضاء ورمادية فاتحة... وتتساءل: «ترى هل تحدث بعضها؟ هل يتكلم الحجر؟ كل هذا الزمن وهو مرمي تحت الشمس... هل يحس؟ هل يشعر؟».
ضحكة بنت في المجموعة التي لا تبعد عنها كثيراً أيقظتها من شرودها. الفتيات منحنيات على أوراق الرسم وأمامهن تشكيلات أحجار جرانيتية، والبنت التي تضحك تلتفت إلى الفتية في الوادي وقد تبعثرت أوراقها.
بضع فتيات لحقن بالصبية. والمجموعة يحملون آنية بلاستيكية يضعون فيها العينات الصخرية التي يجمعونها.
«أنظرن لزي تلك الحمقاء...» صاحت البنت «زي تنكري مضحك... قبعة عسكرية ونظارات طيار وحقيبة ظهر محمولة على البطن. هل تظن نفسها تمثل مشهداً كوميدياً؟».
«دعيها وشأنها وتابعي عملك...» نهرتها زميلتها، ونطقت بنت أخرى: «تعبت... لماذا لا يحق لنا أن نتجول نحن أيضاً؟».
ردت أخرى: «وهل تظنينهم يتجولون؟ تريدين جمع الحجارة تحت الشمس الحارقة؟ أنت مجنونة... أفضل رسمها...».
الفتية الذين انتشروا في عمق الوادي كان لديهم تفكير مماثل.
«الجو خانق. لم لا نرتاح قليلاً؟» سأل أحدهم، وأجابه آخر بامتعاض:
«ما نفع هذه الحجارة أصلاً؟ ما أهميتها؟ كلها متشابهة...».
«لا... هل أنت أعمى؟» ردت بنت اقتربت منهما: «هذه العينات الجيولوجية مختلفة تماماً... وهي مهمة جداً... لأنها تحكي لنا الكثير عن تاريخ هذه المنطقة...».
«لم أكن أعلم أن الجماد يتكلم...» صاح ولد ساخراً، وارتفعت ضحكات الجمع... وعلق الأستاذ الذي كان يراقب الطلاب من مرتفع صغير يطل على موقعهم: «ألم أقل لك بأنهم سيستمتعون؟ الخروج من الفصل رحمة، وهم بحاجة لهذه الجولات...».
ربما.. قالت المدرسة التي كانت ترافقه، «لكنني كنت أفضل أن نأخذهم إلى حديقة الزهور. الشمس حارقة والجو غير مناسب لنزهة جيولوجية...».
«ليست نزهة...» قاطعها «إنها جولة تعليمية. يجب أن يتعلموا كيف يقرؤون الماضي من مخلفاته. لا شيء يضيع أبداً. الماضي يعايش الحاضر. وهذه فرصتهم ليكتشفوا متعة البحث والتنقيب ونشوة الاكتشاف... آي....».
صاح المدرس بألم وهو يشد رأسه، والتفتت إليه زميلته بهلع، وتزعزعت نظارتها وشيء ما يصطدم بإطارها الجانبي ويكسر زجاجها الأيسر.
صرخت وسيل من الحصى ينهال عليهما دون توقف.
وقف الصبي ينظر بتشفٍ للمدرسين وهما يتفقدان إصاباتهما. زملاؤه يواصلون جمع الحجارة السخيفة.
لم ينتبه أحد لما حصل.
لقيا جزاءهما.
عاد أدراجه منتشياً وقفز عبر الصخور التي تسلقها ليفاجأ بالمدرسين من الخلف، ولم ينتبه إلى البئر العميقة التي لا تكاد تظهر بين كتل الصخور.
قدمه التي كانت لا تزال تؤلمه انزلقت على حافة صخرة ملساء، وبلعت البئر التي تلقفته صرخته الأخيرة وهو يهوي فيها.
ولم يسمعه أحد.