نشتهي رائحة الحطب، والتربة المُبللة بالمساءاتِ الشاتية، نشتهي الركض تحت الذكريات الممطرة بالحب، نشتهي لفحة الصيف في منتصف الشتاء، نشتهي هذه الطقوس القارسة من الحياة. فهذه الأجواء الباردة تحرضنا على الكثير من الأمنيات المُعلقة بالتوق، تثيرنا للكتابة، للتأمل، للحنين، للبكاء والسهر، تدفعنا للوقوفِ على الحياد باقتضابٍ وسكون. نحنُ نتقاطع مع الفصول بمزاجيّةٍ لا ندركها، لكننا نستشعرها عندما نسير بمحاذاة الذكريات الشاتية بوهنٍ وغبن. وهذا التأطير الذي نحوم حوله بمشاعرَ غيبيّة ما هو إلا بداية لفصلٍ نجهله، وكأننا نخطو نحو كهفٍ مظلم ورطب. فأنا ما عدتُ أستسيغ أكواب السهر الخالية من الدفء، ما عدتُ أستطيع مواكبة التفاصيل المزدحمة حول الأغنيات القديمة، وما عدتُ أجيد الكتابة عنك كما كنتُ أفعل في الخريفِ الماضي. بدأت لغتي تتقلص وتتجمد بداخلِ الذاكرة المتطرفة من اللحظات الخاطفة، من ساعاتِ الانتظار والترقب الطويلة. هذا الأفق المثلج من الحياة إلى أين يعبر بي أو إلى أين أعبر به؟
هذه اللهجة القديمة التي أكتبكَ بها إلى أين تقودني بكلِ هذا الغليان؟ فأنا امرأة الصمت المطبق والمشاعر الضمنية، مازلتُ لا أحتمل العيش مع التفاصيل الخالية من الأحداث العظيمة، لذلك مازلتُ أنقر فوق الأسئلة المفخخة بتكهنٍ وغرابة... ببساطة لأنها اللغة، وكل ما علينا هو النبش والسير بين سبر أغوارها بحذر، فنحنُ دوماً نكشط الجرح القديم من بين الأسطر من حيثُ نجهل، ودوماً نتلوى تحت فصلِ الشتاء بالكثير من الاشتياق واللهفةِ الأولى، لطالما كان الشتاء يجيد العبث بمشاعرنا، من أقصاها إلى الدرك الأسفل من الحنين.
فهذه الأحزان الملبدة فوق سطحِ الأوراق، ستمطر يوماً بالسلام العاطفي الذي كنا ومازلنا نتمناه، ما نحتاجهُ حقاً هو خلق أحداثٍ مثيرة تضيف الكثير من الحداثة لشتائنا الراكد خلف الذكريات، تضيف الضجيج، الزحام، ومظاهر الحياة للأمورِ الخامدة؛ لتزيد من ثورة الاشتعال بيننا وبين الفصولِ القادمة بزخمٍ وزهو.
الصباحات الماطرة بجذلٍ وحبور ما هي إلا بدايةٌ لحدثٍ لن ينسى على مدارِ الذكريات