mena-gmtdmp

سارعوا في الهرب

سلمى الجابري
عندما يكون المرء وحده، حتى وإن لم يفعل شيئاً، لا يحس بأنه يبدد وقته تقريباً، لا يبدده إلا إذا كان في رفقة. إميل سيوران نحنُ نهرب من مظاهر الحياة الاجتماعية، للخواء، وللاختلاء بذاتنا، لا نبحث في الوحدة إلا على الصمت وسماع صوت أنفاسنا، لا شيء هناك يثرثر فوق رؤوسنا سوى أفكارنا وتأملاتنا، لا شيء يحول بيننا وبين الكون سوى هذا الزحام البشري، لذلك لابدّ من الهروب والخروج عن المألوف، فهذا الروتين الكربوني الذي يجمعنا بكلِ هؤلاء الشخوص في كل الأماكن أصبح يثير الغثيان، أصبح يربطنا بالكثير من الأقنعة والوجوه المنافقة، وهذا فوق الاحتمال. على أي حال، لطالما كان الغياب بالنسبةِ لي أمراً ضرورياً في وسط هذه المعمعة الحياتية، فأنا بحاجةٍ للسكون، للهدوء وللحظات الاحتراق والبكاء، بحاجةٍ للكتابة، للغناء وللصراخ بوجهِ الكون، بحاجةٍ لأفهمني، لأكتبني ولأكون أنا، بحاجةٍ لأخطط، لأفكر، لأقرأ ولأحب القلم، الشمع، الطاولة، الأرفف، الأوراق، الصباحات الشاتية، الليالي الباردة، وساعاتِ السهر، بحاجةٍ لرائحةِ الكتب، الحطب، اللافندر والقهوة، بحاجةٍ إلى أن أمارس طقوسي كما أرغب، دونَ التدخل البشري، دون مقاطعتي أو حتى محاسبتي، فقط من أجلِ هذا هاأنا أهرب من الكل نحو الكتابة، نحو البياض المفخخ بالمشاعر الطازجة، ونحو إعلان حزني بشكلٍ فضائحيّ مثير. لذلك بين تارةٍ وأخرى سارعوا في الهرب؛ حتى تعودوا للتراكمات الحياتية وللأضواء اليومية بمشاعرَ فتيّة؛ حتى تشعروا بالسلام الداخلي؛ وحتى تصلوا للسمو العاطفيّ الذي لطالما كنا وما زلنا نتسوله من القلوب المهترئة دون جدوى تذكر، عانقوا ذواتكم قدر المستطاع، أشفقوا عليها وكرسوا لها وقتكم، بل جزء منه، وليكن وقتاً مستقطعاً من عمركم الفاني، لمرّة واحدة كونوا أنتم واتركوا كل تلك المجاملات والنفاق الجماعي للعدم، وارحلوا بكم؛ لتعودوا أنتم ومعكم هذه المرّة الإنسانية القديمة التي أهدرناها في عصرنا الراحل.