هذا العمر يمضي أسرع مما توقعته، فهو لا يلبث أن يبدأ حتى يركض للنهاية، تماماً كشمعة تحترق فتحترق؛ لتذوب في النهاية وتخمد، لذلك في عمر ما قد نحتاج أن يربت أحدهم بيدهِ الحانية فوق وجعنا بحنان، أن نشعر بأنه يوجد ما يستحق أن نعيش لأجله، فهذه الوحدة المارقة بضفافِ مزاجيتنا أصابتنا بالبؤس، بالتبلد والبرود العاطفي، نحتاج لثورة، لهزة قلبية تعيد لنا نضارتنا، شبابنا وحيويّتنا، نحتاج لذلك الحب اليافع.
قد لا نعلم أين ستقودنا الوحدة، أو حتى إلى أين سترسو بنا، لا يوجد بداخل العزلة أي أجوبة قد تخفف عنّا وطأة الوحشة، لكننا نمضي مشدوهين بداخل أعماقها؛ حتى نفيقَ منها مفزوعين، وفارغين من الحياة، من الأصدقاء، ومن الحب.
لا يمكننا تسريب القليل من الضوء بداخلِ العتمة، لا يمكننا كسر طقوسها الخاصة، ولا يمكننا استحداث أخرى، فإما أن نقبل بها كما هي ونعيشها بظلمتها، وإما أن نبتعد عن مزاجيتها للأبد.
لكنني اخترت أن أعيشها، وأن أتعايش معها، هذه الرمادية المغموسة بالغموض تثيرني للتأمل، للتوحد والابتعاد عن كل الضجيج الذي يصفع أفكاري، لكنني لم أكن أعلم بأنني كلما سرت نحوها وقعت في الهوّة أكثر، لم أكن أعلم بأن يكون مقابل الهدوء والسكينة الطويلة، التخلي عن كل موريات الحياة بنزقها وأتونها، للحد الذي يمكننا أن نستيقظ فيه ولا نجد شخصاً معنا، ولا أحد يستطيع فهمنا، فنحنُ بلا دراية قد تحولنا لأناسٍ من الصعب على العالمين فهمنا، أو حتى التعايش مع أفكارنا الغريبة.
فهذا السواد المفعم بالنشوة قد حجبنا فعلاً عن الجميع من دون رحمة، في الحقيقة من الصعب أن ألومهم، أو حتى أن أعاتبهم على تخليهم عنّا وتركنا في المنتصف من دون وجهة؛ لأننا نحن من ابتعدنا ورحلنا عنهم في أولِ محطة عانقتنا للاختلاء بأنفسنا، وهذه كانت رداً منهم على نكراننا لصداقتهم، لذلك الغرق في وحل الوحدة سيبقى من الصعب النجاة منه بأقلِ الخسائر.