في صغري كنت أعتقد بأن الموت لا يأتي إلا للكبار، ولا يموت سوى العجائز فبين سنة وأخرى كنت أسمع بهذا الشيخ الذي مات، وبتلك العجوز التى توفيت ورسخت تلك الفكرة في أعماقي، أما الآن ففي كل يوم وبين ساعة وثانية نتفاجأ بأن من كان معنا بالأمس، أو قبل لحظات فاضت روحه إلى بارئها، وتطالعنا وسائل الإعلام بأخبار الوفيات من أطفال ومراهقين وشباب بدون استثناء، وتمر علينا حسب الموقف وشدته لحظات أو أيام تطول أو تقصر يكتنفنا خلالها حزن عميق وألم متجدد وتموت في عز لحظات السعادة فرحتنا، ونعيش أيامًا عصيبة مع أنفسنا، ونشعر بأن الدنيا بمن عليها وبمن فيها لا تساوي جناح بعوضة، وبعدها نحاول أن نتناسى ونعود كما كنا. ونعود وتضحك لنا الدنيا ولا ندري ما الذي تخفيه لنا من وراء ضحكتها.
نعود لواقعنا ونمارس دورنا نغضب ونثور، ونحزن ونفرح، نحلم نترقب، نتمنى أن نعمل كخلية نحل وننام كأكوام رمل.
إن ما دعاني لقول ذلك هو شعوري بالغبن والأسى، فما شاهدته وسمعته كان فوق تصوري وأكبر من توقعاتي، فقد كانت هناك صديقتان، لا، هما أكثر من ذلك أختان لا أكثر، كنت أراهما وأسمع عنهما، كل واحدة منهما تدور في محور الأخرى متلازمة معها كظلها تسير كسمائها وأرضها نادرًا ما تفترقان؛ حتى تجتمعا، مرت أعوام كثيرة لا تحصى، أعوام بكل ما فيها من ساعات وأيام وشهور كانتا نموذجًا للصداقة الراقيه المبنية على الإيثار والتضحية والتفاني هي عشرة طويلة جميلة رائعة، أو هكذا كانت تبدو لي وللجميع.
فجأة سمعت أنهما تشاجرتا، وبعدها انقطعت الصلة بينهما، لا يهمني معرفة الأسباب، فمهما كانت تلك الأسباب لم تشفع كل تلك العشرة باحتواء وتجاوز الأزمة، أين رحلت الصداقة والمعزة؟ هل تصدقون أيها البشر، يا ناس، يا عالم بعد كل تلك السنوات المليئة بالود والمحبة والإيثار والتضحية والأخوة تتحول إلى قطيعة أبدية؟ بالتأكيد إنكم مثلي لا تصدقون وإليكم أيها الأعزاء الأمر الأدهى، والذي أصابني بأزمة عنيفة عندما مرضت إحدى الصديقتين لفترة قصيرة وانتقلت بعدها إلى رحمة الله قمت بدوري وذهبت لأداء واجب العزاء، فلم ألمح في الأيام الثلاثة من كانت خليلتها وتوأم روحها، هل تصدقين يا جبال يا أحجار يا صخور؟ هل يعقل أن يتولد الكره والحقد في داخل الإنسان إلى هذا الحد حتى الموت؟ لم يكن واعظًا وكافيًا؛ كي يزيل أي خلاف مهما كان، ففي مثل هذا المواقف ننسى كل من آلمنا وأحزننا، ونتذكر الحنين في النفوس والأنين في القلوب، ماذا أقول بعد ذلك فقلمي يذرف دمعًا، وقلبي ينزف دمًا ولسان حالي يدعو الله وحده، فهو سبحانه من بيده يضمد الجرح المؤلم ويحنن القلوب، ويطهرها من القسوة والجفاء والحقد والغل، وهو وحده القادر على إنزال السكينة والتسامح والعفو والمحبة في أعماقنا. .