ألوان السماء السبعة

نجاة غفران

 


كانت تمطر بخفة. رذاذ لطيف يتطاير مائلاً مع رياح خريفية كسولة. لم يكن الجو بارداً.
لم أقل لها شيئاً وأنا أراها تفتح النافذة، وتمد ذراعها البضة العارية لتلتقط قطرات المطر الخفيفة.
أشعة المغيب الخافتة تتلصص بين طبقات السحاب التي بدأت تنفرج. عما قليل سيطلّ قوس قزح.


لم أنتبه إلى أنني تحدثت بصوت مرتفع، إلا عندما هتفت بنبرة ضاحكة: «حقاً؟ كم أحبه... كل تلك الألوان البهيجة... كم أحبه...!!»،
نظرت خلسة لثوبها العاري الذي يُظهر أكثر مما يخفي. وتملكني الألم.


«لا يمكن أن أبدو كالبهلوان في المكان الذي نقصده... أليس كذلك؟» قالت وكأنها قرأت ما يجول بخاطري.. «لكنني أحب الألوان المشرقة... أترى... هل لاحظت شكل ماكياجي...؟».
من جديد... التوت أمعائي. ثوبها الأسود الضيق يبدو متنافراً مع ألوان الأصباغ التي تزين وجهها. أحمر في أخضر في بني متدرج... طبقات من الدهون اللامعة التي لم يفلح بريقها المصطنع في خفت ضياء عينيها الزمردتين الواسعتين.
لم يسبق لي أن رأيت عيوناً بهذه الخضرة.


«لماذا لا تقول شيئاً؟ ألا أبدو جميلة؟» سألت وهي تتابع تحريك ذراعها خارج السيارة. كانت تعبث بافتتان بقطرات المطر التي خفت أكثر.
«بلى يا حلوة. أنتِ ست الحسن والجمال... ولكنك صغيرة... صغيرة».


ارتفع صدرها وانخفض تحت فستان الساتان الضيق، وهي تضحك بمرح وتتطلع إلى ذراعها المبللة. لم تكن للفستان حمالات، ولم تكن كتفاها العاريتان تحتميان بشيء.
«ألا تشعرين بالبرد؟ كان عليكِ أن ترمي شيئاً على كتفيك...» لُمتها بامتعاض، وارتفعت ضحكتها الطفولية أكثر.. «هاه... أنت تتحدث... بدأت أظن بأنك أبكم...».
لم أبتسم لقفشتها. لم يكن في الأمر ما يضحك.


«هيا أخبرني... ما الذي تفضله... أيام الخريف الماطرة أم المشمسة؟».
هززت كتفي بلامبالاة وتطلعت للسماء. أشعة المغيب الذابلة تغالب الغيوم.
«أنا أفضل الأيام الماطرة. أحب المشي تحت المطر، والجري أيضاً... وحتى الرقص. أنا أجيد الرقص...».
اختلست النظر إلى قوامها الرشيق البادي في شكل جلستها الأنثوية الأنيقة.
صغيرة... ولكنها تفيض أنوثة وجاذبية.


«انظر... انظر... قوس قزح... يا للروعة... يا لجماله..!!» هتفت... ونظرت حيث تشير، وحبست أنفاسي.
لم أرَ قوس قزح شبيهاً بهذا. كأن يداً عملاقة رسمته في عنان السماء. مهرجان ألوان دائري بديع جداً.
اقتربنا من الملهى.
التفتُّ إليها.


شفتاها المصبوغتان بحمرة فاقعة تنعكس بلطف على بشرة وجهها الحليبية الغضة منفرجتان بذهول، وعيناها الخضراوتان تلمعان ببريق طفولي ساحر.
«يا لجماله!...».


أوقفت التاكسي أمام مدخل الملهى الليلي، واقترب كهل ذو بطن منفوخ بعجلة، وفتح الباب لها وجذبها إليه وهو يهتف: «تأخرتِ حبيبتي... منذ ساعة وأنا أنتظر...».
انحنى يمد إليَّ من نافذة التاكسي حزمة أوراق نقدية، وعاد يعانقها ويسحبها إلى داخل الملهى وهو يغمر كتفيها العاريتين بالقبلات.
لم تكن تنتبه إليه.


كانت ترفع رأسها للسماء تحملق في قوس قزح الذاوي.. وتردد بافتتان «يا لجماله!».
اختفيا في الداخل.


رميت حزمة النقود عند قدمي وكأنها قذارة لا أطيق لمسها، ونظرت للسماء التي بدأت تظلم.
زخات المطر الخفيفة عادت من جديد. ضربت مقود السيارة بانفعال وابتعدت والمرارة تملأ صدري.
أكره أيام الخريف الماطرة. أكرهها.