العقاب

نجاة غفران


العم بشير، قريب بعيد للوالد، انقطعت أخباره وأخبار عائلته عنا منذ زمن، وصادف أن التقى الوالد بأشخاص حدثوه عما آل إليه حال ذلك الشق من العائلة. تفرق الأبناء في البلاد، وبعضهم استقر في الخارج، وتنقل والدهم بينهم فترة، وحدثت مشاكل كثيرة، وانتهى به الأمر بالاستقرار في دار عجزة بئيسة في الدار البيضاء. عزم والدي على زيارته، وبالفعل، توجه نحو المدينة الصاخبة في عطلة نهاية الأسبوع التي سبقت شهر رمضان الكريم... وعاد وفي رفقته العم بشير.
لم يرضَ بأن يترك الرجل وحيدًا غريبًا هناك ونحن على أبواب الشهر الفضيل. رحبنا بقريب الوالد، وطاب له العيش بيننا، ومرّ رمضان وعيد الفطر وعيد الأضحى ونهاية العام ولم يعد هناك كلام عن رحيل العم بشير إلى دار العجزة. صار واحدًا منا، فردًا من العائلة، لا نتخيل -لا نحن ولا هو- أن يفترق عنا. أبي يقول إنه يشم فيه رائحة أهله، وأمي تؤكد أنه الظهر الذي كانت تحتاج لأن تستند عليه؛ لتمشي أمور البيت، وتفرض كثيرًا من القواعد التي لم نكن نعبأ بها؛ مثل احترام مواعيد الأكل، وأوقات الدخول والخروج، وتجنب الانفراد في الغرف لساعات طويلة. العم بشير لا يتقبل الكثير من هذه الأمور. صوته الجهوري، رغم تقدمه في السن، يهزّ جدران البيت عندما ينادينا لنخرج أكياس القمامة، أو لنحمل أغراض البيت عن أمنا، أو لنكلم أصحابنا، أو حتى لنأتيه بجريدة الصباح، ونقرأ له مقتطفات منها. يتحرك في كل أنحاء البيت. يتفقد غرفنا، يراقب طبيخ أمي، يوبخ أبناء الجيران عندما يراهم يلعبون الكرة تحت نوافذنا، يُخضع الوالد لاستجواب يومي يثير ضحكنا، يريد أن يعرف الصغيرة والكبيرة عن عمله، وجدول يومه بعد الدوام، ويختفي مرحنا سريعًا عندما نجد أنفسنا نمرّ من نفس المحنة.
أمي تدعو له بالصحة والعافية وطول العمر؛ لأنه ينساق دائمًا إلى جانبها. الأكل اللذيذ الذي تتفنن في طهيه له؛ يدفعه إلى مساندتها في كل ما تقوله، ضاربًا بعرض الحائط نصائح الطبيب. العم بشير رجل بدين، ورغم حركته الدائبة داخل البيت وخارجه، يظل جسمه ثقيلاً ووزنه زائدًا. وقد تعوّد في الفترة الأخيرة على الاستعانة بعكاز قديم للتحرك. عكازه هذا تسبب لأبي بأزمة في عمله. فقد دعا، بعد طول تردد وارتباك، رئيسه الجديد في قسم المعاملات القانونية للعشاء عندنا. الرجل، الذي لم يستقر بعد تمامًا في المدينة، جاء برفقة زوجته وابنه المراهق؛ فتى غريب الهيئة، يرتدي بنطلونًا قصيرًا وفضفاضًا، ويصفف شعره المصبوغ بلون أشقر فاقع على شكل عُرف ديك؛ يمنحه مظهرًا بالغ الوقاحة. رئيس والدي شخص مرح، وزوجته مثله لا تكفّ عن الابتسام، قال أول ما قدمنا الوالد إليه إنه متحمس لأن نصادق ابنه ونعيده إلى جادة الصواب، وقهقه طويلاً وهو يقول ذلك. وكان واضحًا أن الفتى يستغل طيبة والديه ليتصرف كما يحلو له. تفجرت مواهب العم بشير في سهرة العشاء هذه، ولم يكف عن مشاكسة الولد، وتحويل كل حركة يقوم بها إلى نكتة يتسلى بها، ويسلي والديه أيضًا. وحدنا كنا نشعر بالحرج، أنا وأخي ووالدي. وفي النهاية، ونحن نودع ضيوفنا، فاجأنا العم بشير برفع عكازه إلى أعلى وانهياله على ساق الولد به بشكل غير متوقع. صرخ الفتى وانحنى يتفقد ساقه وهو يئن ويتوجع، وانفجر والدي في وجه العم، وضربت أمي وجهها بيديها، وقد خرجت عيناها من محجريهما، وصاح العم مدافعًا عن نفسه وهو يشير بالعكاز إلى رجِل الولد: «هناك حشرة مؤذية على جانب ساقه، أردت قتلها...».
بكى الولد، وصاح أبوه: «أي حشرة يا عم؟ هداك الله... ذاك وشم يا حاج... ذاك وشم».
ذهب الضيوف، وانفرط جمعنا، وسمعت والديَّ يتناقشان بشأن الحديث مع العم، ودفعت أمي الوالد نحو غرفتهما وهي تردد: «ما حدث قد حدث. لا فائدة من تسميم الأجواء الآن. ثم إن المرء يمكن أن يخطئ. وشم الفتى غريب فعلاً، ومخيف للغاية، وبشع. أهو عقرب أم عنكبوت مشعر؟! لم يكن قصد العم سيئًا... أراد فعلاً أن ينقذه...».
لم أكن متأكدًا من ذلك. كان واضحًا أن العم قصد أن «يقرص» الفتى، الذي لم يرق له مظهره ولا طريقة تعامله مع والديه.
أويت إلى فراشي وأنا أتذكر صرخة الفتى ودموعه... وتملكني بعض القلق وأنا أتلمس شعري. منذ أيام والعم بشير يلح عليَّ لأذهب إلى الحلاق وأقصه.
ربما حان الوقت لأفعل ذلك...