الفقاعة

نجاة غفران


استيقظت بمزاج غريب. منذ فترة وأنا أشعر بتقلبات نفسية لا أفهمها. أهي ضغوط الدراسة؟ لسنا في فترة امتحانات، والأمور تمضي كالعادة. ليس ثمة تغير في حياتي. أقضي أغلب أوقاتي في الكلية، أخرج مع أصحابي، نمرح في نهاية الأسبوع، أتفرج على المباريات التي أحبها، ولا مشكلة لديّ مع والديّ. ماذا يحدث لي إذن؟ ما الموضوع؟


لا أفهم شيئاً. وأنا أتقلب في فراشي منذ ساعات حاولت أن أحدد كيف هو مزاجي. هل أنا فرح؟ تعيس؟ بين البينين؟ لا أعرف! هناك غصة في حلقي، وفي الوقت نفسه يتملكني حماس شديد لركوب دراجتي الهوائية والذهاب إلى الكلية تحت المطر. أرى قمم الأشجار المبللة في الحديقة من النافذة التي لم أغلقها ليلاً. لفحات باردة تبعث رجفة لذيذة في جسدي. أتوق للانطلاق بعيداً، ونسيان كل شيء، وترك تقلبات هذا الصباح الربيعي البارد تلفني وتشعرني بأنني كائن ضعيف لا حول لي ولا قوة.
هل هي بداية نوبة كآبة مفاجئة؟ ولم أكتئب... وأنا لم أتلقَ صدمة ولم أصب بانهيار ولم أتعرض لفشل ولا لخيبة أمل؟


جلست أتناول فطوري بشهية وأنا أستمع لحديث والدي. أبي يقول إنه سيتأخر في المساء ويوصي أمي بأن تراقب عامل الصيانة الذي سيأتي لإصلاح ماسورة الحمام، وأمي تذكره بأنها ستذهب لرؤية أختها. زوجها الحاصل على الدكتوراه من جامعة إسبانية، عاد أخيراً ليتسلم عمله في المستشفى، وهي تريد أن ترحب به وتهنئه، وتفكر في دعوة الاثنين للعشاء في الأيام القادمة. أستمع لكل هذا وأنا أبلع فطيرتي وأنهي فنجان القهوة وأصب لنفسي فنجاناً آخر.. وأتساءل في الوقت نفسه إن كان من الصائب أن أكثر من الكافيين وأنا في هذه الحال. توقف الحديث، وتطلع والداي لي، وقلبت نظراتي فيهما وأنا لا أفهم شيئاً. كررا السؤال الذي لم أسمعه على ما يبدو. هل لديّ محاضرات مهمة هذا الصباح؟! يمكن أن أتكفل أنا بمراقبة العامل إن استطعت التغيب عن الجامعة. والدي لا يثق في الرجل ولا يريد أن يتركه وحده في البيت. بلعت قهوتي واعتذرت. كل محاضرات كلية الطب مهمة. لا يمكنني التغيب حتى لو شئت.


تركت والديّ يناقشان مسألة تغيير موعد حضور العامل، وحملت حقيبة كتبي وامتطيت دراجتي. قطرات المطر خفيفة والريح الباردة تدفعني نحو الأمام، وأنا أخترق الشارع المشجر الطويل الممتد على طول الكورنيش. قلبي يدق بشدة وأنا أتقدم. عما قريب سأصل لبوابة الكلية وأنطلق نحو المدرج الثاني على يسار المدخل الرئيسي وأجلس في مقعدي في الصف الثاني يمين الممشى، وأتابع المحاضرة الأولى وأنا أدوّن على حاسوبي الملاحظات التي يسردها الدكتور.
مرت الساعات كالحلم الغريب. شعرت بها... ولم أشعر. كأنني أتحرك داخل فقاعة يعزلني غشاؤها الرقيق عن العالم. أتابع دروسي دون أن أكون فعلاً هناك. أفكاري مبعثرة وانفعالاتي غائبة تماماً. لم أمتعض عندما وجدت طبق الغداء الرئيسي في الكافتيريا سمكاً وفواكه بحر أكرهها. طلبت سلطة وعصير برتقال، وسحبت من الموزع الآلي علبة شوكولاتة وتناولت أكلي وذهني غائب. كأن شخصاً آخر تلبس جسدي وصار يتحرك ويفكر مكاني وأنا محشور خلفه أتفرج ولا أستطيع أن أحرك ساكناً.


رافقتني قطرات المطر التي تحولت إلى ستار سميك في طريق عودتي إلى المنزل في المساء. تركت دراجتي في المدخل، وجرت أمي غاضبة نحوي وهي تشير إلى حذائي المبلل. آثار أقدامي الملطخة بالوحل واضحة على سجادة الممر. انحنيت أتخلص من حذائي وأنزع حقيبتي عن كتفي، ومدت إليَّ أمي ورقة مالية من فئة الخمسين درهماً، ولفافة ورق ضخمة. رفعت عيني متسائلاً، وهتفت بعجلة: «مرّ بائع المتلاشيات قبل خروجي في الصباح، وتذكرت مذياعك الصغير المرمي فوق الدولاب، منذ أن تعطل وأنا أفكر في التخلص منه. اشتراه مني البائع مقابل هذا المبلغ، صفقة رابحة أليس كذلك؟ أوه... وهذه هدية أرسلها لك زوج خالتك. إنها نسخة من بحث الدكتوراه الذي أنجزه. يجب أن تتصل به وتشكره. عليك أيضاً قراءة البحث بتمعن. لقد دعوته هو وخالتك للعشاء مساء الأحد القادم. سيرغب بالتأكيد في مناقشة بحثه معك...».


صعدت إلى غرفتي وأذناي تطنان. المذياع الصغير. ماذا دهى أمي؟! نظرت إلى ورقة النقود في يدي المرتجفة... كل مدخراتي مخبئة داخل المذياع. أزيد من خمسة آلاف درهم. عامان من الحرمان. بادلتهما والدتي بخمسين درهماً؟!
جلست على سريري وفتحت اللفافة. بحث زوج خالتي. تطلعت للعنوان: «ميكانيزم الانتحار: الفكرة والتنفيذ»، تأوهت بألم وكأنني تلقيت لكمة في بطني. هذا ما كان ينقصني!
ارتفع أنيني الذي لم يلبث أن تحول إلى موجة ضحك هيستيرية.
حياتي نكتة حقيقية.