دموع وابتسامة

نجاة غفران


أخيراً... تحركت الطائرة بعد طول انتظار. إجراءات السفر أخذت وقتاً، وقبلها، أعلن في مكبرات الصوت بأن الإقلاع سيتأخر لأسباب فنية. ثلاث ساعات مضت وهو يذرع أرضية المطار جيئة وذهاباً. ربما لم يكن إلحاحه على القيام بالمهمة صائباً. لكن مدير التحرير بالغ. زميلاته لم يتركن وجهة خارجية لم يقصدنها. وهو... المرة الوحيدة التي تم بعثه فيها في تغطية خارجية كانت منذ سنوات. رحلته القصيرة إلى برشلونة صارت جزءاً من الماضي. ولم يعد يذكر منها إلا بعض الشتات.
استوى في مقعده في الطائرة، وأغلق عينيه لحظة وهو يفكر في ما ينتظره. مهرجان الجالية المغربية الذي بعثته صحيفته لتغطيته سيستمر أسبوعاً. تناقش طويلاً مع الإدارة لإقناعها بضرورة بقائه هناك حتى ليلة الختام. مشكلة الصحيفة كانت مادية خالصة. مصاريف إقامته الطويلة نسبياً ستكلفها كثيراً، رغم أن الميزانية التي صرفت للرحلة في الحقيقة لا ترقى إلى المستوى المطلوب. وجد صعوبة كبيرة في العثور على فندق رخيص. إحدى الزميلات تطوعت بعد أن رأته يشد شعره وهو يتنقل بين مواقع الحجز الإلكترونية وأمدته بعنوان مناسب. بطاقة السفر كانت مشكلة أخرى، حلها في آخر لحظة.


شعر بالسيدة الجالسة على يساره تتحرك وتصدر صوتاً غريباً. أشاح بوجهه دون أن يفتح عينيه جهة النافذة. لا رغبة له في التحدث مع أحد. إدارة المجلة طالبته بإنجاز أكبر عدد ممكن من اللقاءات. سيستقبل المهرجان مغنين وممثلين وكتاب وناشطين اجتماعيين، وعليه بجانب الريبورتاجات اليومية المصورة أن ينجز تقارير منوعة عن حياة المغاربة هناك. لن يكون لديه وقت حتى لحك رأسه. لم تكن الإدارة لينة معه. إصراره على تغطية المهرجان بدل زميلاته أحدث شرخاً في علاقته مع الكثير من رؤسائه. وحتى مع زميلاته. بمن فيهن تلك التي أمدته بعنوان الفندق. كان من الممكن أن يقع الاختيار عليها بحكم تجربتها في التغطيات الخارجية.
شهقت جارته في المقعد وأصدرت صوتا يشبه الأنين، وتكوم في مقعده وهو يتساءل إن كان من المقبول أن يضع سماعاته ويشغل بعض الموسيقى. وقبل أن يجد جواباً بادرت المرأة إلى مناداته: «عفواً سيدي، أرجو أن لا أكون قد أزعجتك...»
وجد نفسه يلتفت إليها ويرد بأدب: «لا، أبداً... كنت أحاول أن...»
هنا لاحظ بأنها تبكي. عيناها منتفختان وخداها مبللان. وفي يدها منديل أبيض.


«عذراً...» قاطعته وصوتها يرتعش «لست على ما يرام. أنا في طريقي إلى أمستردام لإنهاء إجراءات طلاقي. زوجي على علاقة بامرأة أخرى. تخيل سيدي... بعد سبعة عشر عاماً من العشرة... رماني كخرقة بالية واستسلم لأحضان شابة في عمر ابنته. ذهبت لأرى والدي بعد أن أرسل لي محاميه أوراق الطلاق. لم أكن أود البقاء معه في نفس البلد. لكن أهلي أقنعوني بالعودة إلى أمستردام. الشقة من نصيبي. لدينا ابنة تدرس في الثانوية، تركتها معه. والدي قال لي بأنه ليس من حقه أن يدمر حياتي هكذا...
أخذت تبكي، ولم يدر كيف يتصرف. المرأة تريد أن تحكي حياتها له، وهو غير مهتم بذلك. لديه ما يكفي من المشاغل...
«كيف ينقلب عليّ بعد هذا العمر؟ ما الذي دار في عقله؟ هل يعتقد بأنه سيسترجع شبابه إن جرى وراء فتاة لا تهتم سوى لمبلغ المال في محفظته؟ أي أحمق هذا الرجل الذي تزوجت به؟ وكيف... كيف لم أكتشف وجهه الحقيقي قبل الآن؟»
لا يدري كيف مرت الرحلة. لم تتوقف المرأة عن الكلام والبكاء وطرح نفس الأسئلة التي تجيب عليها بنفسها ويداها تشدان المنديل بعصبية بالغة.
لم يصدق حين حطت الطائرة وتفرق الركاب.


هرب كاللص من جارته، وهرع يبحث عن فندقه ويمد وجهه لمطر الصبيحة وهو يرغي ويزبد. أقبل على سفريته ممنياً نفسه بسرقة سويعات للاستمتاع بالحياة الهولندية الوديعة. زهور أمستردام الخلابة ومتاحفها الشهيرة وقنواتها المائية الهادئة وطواحين هوائها الحالمة وحدائقها الخضراء البديعة والجبنة الهولندية رائعة المذاق وبطاطسها المحمرة اللذيذة... وها هو يقضي أفظع ساعات عاشها في الاستماع لشكوى امرأة تدعو بالويل والثبور لكل رجال العالم.
وصل إلى فندقه أخيراً. أخذ مفتاح غرفته وهو يفكر في أن عليه أن يشكر زميلته. لطف منها أن تساعده رغم أنه حصل على المهمة التي كان من الممكن أن تبعث لها.
في الممر الضيق المؤدي إلى غرفته صادف شخصين يجران حقائبهما وهما يغادران.


سمع الأول يهتف «أخيراً سنغادر هذا الفندق البائس...»
والثاني يقول «أخيراً... وداعاً للقذارة والصخب وقلة التهذيب..»
عقد حاجبيه وهو يعيد التفكير في زميلته.
هل أرادت حقاً أن تساعده؟
لاحت له فجأة معان أخرى لابتسامتها الواسعة، وهي تدله على عنوان الفندق. وغلى صدره وهو يطلق سلسلة من الشتائم لم يفهمها غيره.