رائحة الخبز

نجاة غفران

 

لا ندري من أين أتى الثور اللعين.
كأن الأرض انشقت وقذفته كالقنبلة في وجهينا.
صرخ سعيد ورمى هاتف أخيه وهب يجري كالمجنون، ولحقت به والثور يرغي ويزبد خلفنا، ارتمينا على باب الدار نضربه بكل ما أوتينا من قوة وننادي بائع الخبز ونحن نرتجف ونبكي من الهلع، ارتفعت ضجة مريبة حولنا وتعالت أصوات تحذر الثور وتأمره بالتريث والهدوء، ولكننا لم نجرؤ على الالتفات لتقصي ما يحدث، ولا على الكف عن ضرب الباب والتوسل للبائع لكي يفتح لنا، تحرك المقبض الحديدي أخيراً وأطل البائع والشتائم الحارقة تسبقه: «ماذا دهاكما؟ ألا تستطيعان أن تصبرا بضع دقائق؟»
فغر فاه بذهول وهو يرى المشهد السوريالي، دلفنا إلى الداخل بسرعة، واحتمينا بجسده الفارع، والتفتنا بدورنا إلى الجمع الذي تحلق حول الثور، بضعة رجال أشداء يصحبهم فتيان أكبر منا قليلاً، الثور يخفض رأسه بإذعان وقد شلت السواعد الضخمة حركته. 
وأصحاب السواعد يتطلعون بغضب إلى مدخل الدار؛ حيث بائع الخبز، ونحن، وصاحبة الدار.
الخالة جليلة، الأرملة الشابة التي يزورها بائع الخبز كل صباح، في طريقه إلى البلدة.
منذ بداية العام ونحن نرافقه، كنا قبل ذلك نقطع المسافة الطويلة بين قريتنا والمدرسة مشياً على الأقدام، كان ذلك متعباً؛ خصوصاً خلال أيام الحرارة القائظة، توقف ذات ظهيرة وحملنا معه في سيارة البيك أب، التي ينقل بها الخبز الطازج ليوزعه على الدكاكين الصغيرة في القرى المحيطة، لازلنا نذكر ذلك اليوم بفرح، كنا متعبين وجائعين، وصعدنا قربه في الكابينة الأمامية، وداخت رؤوسنا برائحة الخبز الشهية التي كانت تعبق في المكان، ومد البائع الشاب يده إلى سلة خلفه وأمدنا برغيفين نهشناهما بنهم ونحن نكاد نبكي من الغبطة والانتشاء، ومن يومها وهو يحملنا معه كلما لمحنا في طريقنا اليومي من وإلى المدرسة.
كنا نحصل على رغيفينا ونطالب بأمر واحد فقط، أن نحرس السيارة بانتظار خروجه من منزل الخالة جليلة.
كل يوم، يتوقف أمام بيتها القابع في ربوة مطلة على قرية قريبة، يوقف السيارة قرب شجرة البلوط الضخمة التي تظلل مدخلها، ويوصينا بألا نغادر المكان، ولا نحدث ضجة، وينقر الباب الخشبي وهو يمسد شعره ويرتب ثيابه ويبتسم ببلاهة، وكأنه يقف أمام جمهور عريض. 
أحياناً نبقى في الكابينة بانتظاره، ومرات أخرى، كما حدث اليوم، نخرج لنستطلع المكان ونتسكع دون أن نبتعد، بانتظار كوبي الحليب البارد اللذين تقدمهما لنا الخالة جليلة من حين لآخر، لم نحصل عليهما اليوم، ولم نكترث، لأن الهاتف الذي أحضره سعيد شغلنا تماماً، توسل كثيراً لأخيه قبل أن يقنعه بأننا نحتاج إليه لالتقاط صور لموضوعنا الدراسي عن التلوث البيئي.
الهاتف..
انخلع قلبي وأنا أتذكره، أين هو؟ هل دهسته قوائم الثور؟
التفتُّ لصاحبي لأسأله عنه، وفوجئت بالرجال يتقدمون نحونا ويشدون البائع من ثيابه ويسحبونه إلى الخارج، والخالة تتبعهم وتبكي وتولول وقد انسل غطاء شعرها وانهمرت خصلاتها على كتفيها وحول وجهها، في فوضى جميلة تشبه تلك التي نراها في دعايات الشامبو.
كانت جميلة حقاً.
تعالى صراخ الرجال واختفى بائع الخبز في الحلقة التي طوقته، وازداد بكاء الخالة وأدرت وجهي بصعوبة نحو صاحبي الذي كان يتابع هو الآخر المشهد بفضول، وسألته: «أين هاتف أخيك؟ أين هو؟ يجب أن نجده..»
شهق سعيد بهلع وهب إلى حيث كنا نجلس قبل هجوم الثور، ولحقت به وأخذنا نتفحص الأرض بخوف وسعيد يردد: «سيقتلني أخي إن لم أعده له.. سيقتلني..»
صراخ الرجال قربنا لم يعد يعنينا، وبكاء الخالة أيضاً.
وحده الهاتف المفقود كان يشغل تفكيرنا.