فرجة

نجاة غفران

 

لم يسبق له أن دخل إلى صالة سينما، لا يعرف كيف يتصرف، ولا فكرة لديه عما سيجده هناك.
إنها أوامر المدرب، قال له إن عليه أن يشاهد فيلماً سينمائياً ويأتي ليتحدث عنه أمام رفاقه في الحصة القادمة.
يدور في نفس الدوامة، ولا يشعر حقاً بأن أموره تحسنت، ذاك اليوم عندما استدعاه رئيس القسم وأخبره بأن عليه أن يخرج من قوقعته ويتواصل مع الناس بوتيرة أكبر، أحس بالهلع، هل سيفقد وظيفته من جديد؟ سبق وأن تخلى عنه مدراؤه لضعف المردودية وجمود الخدمات، صار يتهيب استدعاء رؤسائه له، الكلام نفسه يتكرر بأشكال مختلفة، علاقاته مع زملائه باردة، شكاوى الزبناء من جفائه كثيرة، مبادراته منعدمة، وجوده وغيابه في مكان العمل سيان، لا أحد يشعر به، ولا زائر يطل على مكتبه، طريقته الباردة في التعامل مع الناس والانزواء بعيداً عنهم، تنفر الجميع، موظفين وزبناء، ما حاجة رب العمل إذن له؟
اقترح رئيس القسم عليه أن ينضم إلى إحدى دورات التدريب على مهارات تطوير العلاقات العامة في المجال المهني والشخصي، رئيسه هذا كان ألطف من سابقيه، لم يعجل بإعلان استغناء المؤسسة عنه، ولكنه اقترح عليه حلاً لحالة لا يرى سوى ظاهرها.
طول عمره وهو يعاني من مشكلته هذه، حالة خجل حادة تبعده عن الناس وتسجنه في قوقعة، لا يقدر على الخروج منها، ثلاث وثلاثون سنة وهو لايزال يتصرف كطفل صغير، يعيش وحده في شقة يهرب إليها كلما انتهى دوامه، وينزوي أمام التليفزيون يبلع برامجه دون تفكير، لم يسبق له أن فكر في مراجعة اختصاصي، تكيف مع حاله واكتفى بصحبة نفسه، لكن حالات تسريحه المتتالية بثت الرعب في نفسه، ماذا يصنع إن خسر وظيفته من جديد؟ كيف يصرف على والديه العجوزين في البادية، وأخته المعاقة التي لا تملك في الدنيا غيره؟ أيعود بخفي حنين لهم؟ وماذا يفعل هناك.. في قريته الجبلية الفقيرة حيث لا عمل ولا مستقبل؟
انضم إلى دورة التدريب التي تحدث عنها الرئيس، وداوم على حضور حصصها التدريبية بانتظام، استمع لتدخلات الحاضرين، ودوّن كلام المدرب، وراجع نصائحه بكد وجدية تلميذ يحفظ دروسه عن ظهر قلب، وها هو دوره يحين أخيراً، ويكلفه المدرب بمهمة لم تخطر على باله يوماً.
صعد درجات المبنى المندس وسط عمارات الحي التجاري، ودلف إلى البهو البارد واقترب من الشباك، اشترى تذكرته والعرق يتفصد من جبينه وكأنه أتى بحر شمس الظهيرة الحارقة معه، سأل فتاة الشباك أين صالة العرض، وأشارت البنت وهي تعبث بهاتفها إلى اتجاه تبعه وقلبه ينبض بجنون، كاد يتعثر وهو يهبط الدرجات المكسوة بسجادة تنبعث منها رائحة رطوبة قديمة، القاعة مظلمة تماماً، تلمّس المقعد جنب الصف وشعر بجسد أحدهم، وأخذ نفساً عميقاً وهو يرتب الكلمات في ذهنه المبعثر، كيف يطلب منه أن يقوم ليدعه يدخل ويجلس قربه..؟ لا يريد أن يزعج الحاضرين.. كيف يدلف إلى داخل الصف دون أن يثير جلبة ولا ضجة..؟
حالة الخجل اللعينة غمرته وأربكت حركاته.
بلع ريقه وانحنى وهمس بصوت خفيض للشخص الجالس: «هل تسمح من فضلك؟ اعذرني على الإزعاج ولكنني أريد أن أجلس.. إذا تكرمت.. رجاء.. رجاء..».
وقف الشخص، ودلف وعرقه يسيح إلى الداخل وجلس بمحاذاته، وهو يقلب رأسه يميناً ويساراً، أماماً وخلفاً، ويعتذر للحضور الذين لا يراهم بلسان ملعثم جف ريقه وانكسرت كلماته.
لم يفهم الكثير في الفيلم.
فالشريط الذي لم ينتبه إلى موضوعه كان واحداً من تلك الأفلام الروائية التي يغلب عليها الصمت ولا يفهم المتفرج شيئاً فيها، وحالة الارتباك التي لم تفارقه لم تيسر أموره؛ فقد أجبر نفسه على البقاء مسمراً في مكانه حتى لا يزعج الناس، تمنى لو استطاع خلع معطفه ليتنفس جسده المعرق، لكنه خشي أن يُغضب الحاضرين بحركاته أو يثير اشمئزازهم برائحة عرقه، ولم يستطع التركيز في الفيلم.. وبدأت أفكاره تدور في حلقة مفرغة مخيفة، عليه ألا يلمس جاره بكتفه، يا ترى هل يزعجه تنفسه بصوت عال..؟ وضربات قلبه.. هل يسمعها؟ ومدربه.. ماذا سيقول له وهو لا يفهم شيئاً في مشاهد الفيلم الصامتة؟ ولا يستطيع التركيز فيها؟ وهذا الظلام.. معقول أن صالات السينما هي هكذا؟ ورائحة السجاد الخانقة؟ والحر؟ ومعطفه؟ والناس الذين يشعرون بكل تأكيد بأنه لا يتابع الفيلم مثلهم..؟
مضى الوقت بطيئاً، بطيئاً.. قبل أن ينتهي الشريط، وتضاء الأنوار، وهنا كانت الصاعقة.
لم يكن في القاعة غيرهما.
هو.. والشخص المسكين الذي نغص عليه فرجته، وأجبره على النهوض ليجلس قربه، ويترك باقي مقاعد الصالة فارغة تماماً.