قفزة القمر

نجاة غفران

 

قدمها إليّ وهو يبتسم بحنو: "إنها فرد من العائلة، لن تشعري بالوحدة معها، ستغير جو بيتك..".
نظرت إليها.. عيناها الخضراوان تتطلعان بفضول إليّ. 
كثير من أهل القرية جاءوا للاطمئنان عليّ، وأحضروا فاكهة وخضارًا وخبزًا وطعامًا جُهّز بعناية، بعضهم قال لي إنه كان عليّ أن أذبح خروفًا وأجهز وليمة للفقراء قبل أن أستقر في البيت، لم أفكر في ذلك، والفلاح الذي جاء يعرض عليّ شراء خروفه، أحضر معه " قمر" لتؤنس وحدتي.
أنا من أطلق عليها هذا الاسم، من فرط ما أعجبت بجمالها.
اشترى لي ولدي الذي يعمل في إيطاليا هذا البيت بعد أن أمضيت سنوات وأنا ألحّ عليه ليساعدني في بيع منزلي في الدار البيضاء وشراء سكن لي في البادية. أعيش وحدي منذ وفاة والده، لم أعد أطيق ضجيج المدينة ولا صعوبة التنقل فيها، ومفاصلي لم تعد تتحمل تأثير رطوبة البحر، آلام رجلي لا تنتهي، وولدي، بعد أن رأى الحال التي صرت عليها وتحدث مع الطبيب، اقتنع أخيرًا بوجهة نظري وبادر إلى إتمام المعاملات التجارية اللازمة، واقتناء بيت الرابية هذا الذي يطل على القرية.
أينما وجهت وجهي عندما أجلس في الحديقة الغناء المحيطة به، لا أرى سوى الأفق البعيد والخضرة المترامية، والبيوت الطينية الصغيرة المنثورة بين الحقول. أشعر بأن روحي ردت إليّ.. وبأنني أعيش حُلمًا حقيقيًا.
داعبت قمر، وطمأنت الفلاح إلى أنني سأحسن معاملتها، وحدثها قائلاً وهو يجلس حيث أشرت له: "سمعت يا حلوة؟ لن ينقصك شيء هنا، ومتى اشتقت إلينا سآتي وآخذك لزيارة إخوتك، ما رأيك..؟"
ضحكت وأنا أنحني لأصب له الشاي وأناقشه في ثمن خروفه.
الناس هنا يأخذون مسألة حادثتي بجدية كبيرة، "لا يجوز يا سيدتي أن تسكني بيتًا ظل مهجورا سنوات طويلة دون أن تفرشيه بالصدقة وعمل الخير ودعاء أهل المنطقة.."كلام ردده لي كل من جاء يتفقدني، لم أكن على عتبة الموت، الحادث السخيف الذي تعرضت له، جاء نتيجة إهمالي؛ إذ اصطدمت وأنا أتمشى في الظلام ذات ليلة بدولاب لم أزحه من الممر المؤدي إلى المطبخ، كنت أرغب في إحضار كوب ماء من الثلاجة، وسقطت علبة كرتون ضخمة تحوي دزينة أحذية أمان بعثها لي ابني من إيطاليا، على قدمي، وكسرتها.
أحذية أمان يفترض أن تضمن لي المشي بسلامة دون الإحساس بآلام الروماتزم.. تكسر رجلي.
أحيانًا أتساءل، إن لم تكن للأشياء روح سادية تترقب لحظة الانتقام منا، نحن الأحياء..
اتفقت مع الرجل على الثمن، ووعدني بأن يتكفل بأمر الذبح ودعوة الناس إلى الوليمة، بقيت مسألة الطبخ وإعداد المكان.
لم يكن كسري يعيقني عن الحركة، الكرسي المتحرك الذي أتنقل به يمكنني من قضاء أغلب أغراضي، لكن تجهيز وليمة يحتاج لكثير من المساعدة.
أرسلت في طلب بعض نساء القرية، وانهمكنا في الأيام التالية في التحضير لليوم الموعود، وكان ولدي الذي يعلم بأمر الحادث يواكب الترتيبات معي يومًا بيوم..
قمر، التي صارت لا تفارقني، تتبعني أينما تحركت؛ بل وتنام معي، تعلقت بها لدرجة أنني صرت أنقل أخبارها أيضًا لابني، الذي لم يتحمس لرعايتي لها، لم يعد فيّ حيل، حسب رأيه، للاهتمام سوى بنفسي.
حل اليوم المنتظر، وأفقت صباحًا على صوت النساء اللاتي قضين الليلة عندي،
خرجت أتفقد الأمور وقمر في إثري، ولمحت وأنا أوقف الكرسي في ممر الحديقة الخارجي، سيارة سوداء تسلك المنعطفات الصاعدة نحو الرابية، دق قلبي وأنا أقود الكرسي بجنون نحو الطريق، سيارة مرسديس سوداء، إنه ابني، لا يستأجر غير تلك الماركة، إنه هو..
صحت أناديه والفرح يغلبني، وقفزت قمر بإثارة وهي تراني أسرع نحوه، وسبقتني، وصرخت وأنا أرى السيارة تمرق نحوها، وانتبه ابني إلى صياحي وحاول تفاديها، وقفزت سيارته بعنف جانبًا.. واندفعت داخل سياج من الأحراش.
وأغمي عليّ.
استعدت وعيي وأنا أشعر برائحة بصل قوية جدًا تقلب أمعائي، إحدى النساء تمرر بصلة أمام أنفي.
انحنى ابني علي: "ماما.. الله يهديك.. قلت لك بأنك لست حمل تربية القطط.. وها أنت ترين.. اللعينة كادت أن تودي بحياتي.. وحياتك.. وهي بخير.. انظري..".
قمر كانت تموء بين ذراعيه وهو يبتسم وينظر إلي، وعيناه تفيضان حبًا.