هل من الممكن أن ينسى الإنسان أحداثاً عميقة أثرت في حياته؟ وهل من المعقول أن تختفي وكأنَّها لم تكن؟ لقد سألت نفسي كثيراً. كيف كنت أحبُّه كل ذلك الحب؟ وهل ممكن أن يستغرق الوهم سنوات طويلة؟ نعم أعترف بأنني أحببته من كل قلبي ووهبته كل حياتي، وظللت أحبُّه طوال سنوات وسنوات. أحببت نفسي معه. كان أروع وأرق قلب، كل صفاته كانت تبعث في أعماقي الراحة التي جعلتني أحب نفسي من خلاله، فهو زرع الدفء بداخلي، وأضاء طريقي، فأصبحت حياتي مشرقة ورائعة، فقد دعّم ثقتي في ذاتي وفي كل من حولي. الكلام معه كان له معنى ومذاق مختلف. معه شعرت بالراحة الذهنيَّة وبالطلاقة الفكريَّة. معه أكون أنا، أكون ذاتي على حقيقتها، كل يوم كان يحمل لي أملاً جديداً في أن نكون معاً إلى الأبد. لم أكف عن التفكير في تحقيق هذا الأمل، ولم أضعف لحظة واحدة. كانت ثقتي فيه عمياء؛ لأنَّه كان يحبني، ومن يحب يصدق، ومن يحب يخلص، ومن يحب يبذل جهداً للحفاظ على من يحبه. ولكن طال الانتظار، وظلت علاقتنا معلقة، ولم يفعل شيئاً، لم يتقدم، ولم يبادر، حتى تسرّب القلق اللعين إلى أعماقي، وجرني هذا الإحساس للوساوس، التي أوصلتني للهواجس السوداء، التي أعقبها ظن غير مريح، وبالتدريج تراجع الأمل بقدر غير محسوس، ووجدت نفسي بلا إرادة مني أتصنع السعادة في وجوده، وأرتدي قناعاً فوق وجهي؛ لأخفي معالمه، حتى كرهت ذاتي بقناعي الجديد، وهكذا حتى بدأت أفقد في داخلي مشاعر كانت متأصلة، وهوى ركن مهم في علاقتنا، وسلبت مني قيمة كبرى؛ وهي أن أكون على طبيعتي، وأن أكون نفسي، وبالتدريج بدأت الظنون تقبع في كياني، وتفسر كل تصرف كما يحلو لها. بدأت أشعر بأنَّه يقول كلاماً لا يعنيه، ويفعل عكس ما يقول، فانهار ركن آخر كان يميزه؛ وهو الصدق، فأحدث شرخاً عميقاً في داخلي. كنت أصدّقه وهو كاذب، ولا يعني ذلك مهارة منه، لكن لأنني كنت أريد أن أصدقه، وهو يعرف أنَّه يكذب، ولا يريد أن يواجه نفسه بالحقيقة؛ الحقيقة التي تؤذي مشاعري، وبذلك ضاعت الحدود الفاصلة بين الصدق والكذب، بين الحقيقة والوهم، بين الغش والأمانة، وأحسست برغبة عقلي في الانسحاب من حياته، فكرامتي وكبريائي فوق قلبي وحبي. بعدها قلّ حماسه، وخفّ حماسي، لقد تغيّر وأنا أيضاً تغيرت، وبما أنَّ لكل قصة نهاية، فقد انتهت روايتنا بنهاية تعيسة ومؤلمة، وفعلاً ذهب كلٌّ منَّا في طريقه، لم يكن الأمر سهلاً، لكن الزمن قام بوظيفته وأسقطه من حساباتي، والآن لم أعد أشعر بوجوده، وكأنَّه لم يكن موجوداً أصلاً في كياني، وسقطت الأحداث التي ارتبط بها، وكل المعاني والمفاهيم تلاشت، واغتلت حبي المتأصل في أعماقي، ولم يعد له مكان أو وجود في عقلي وفكري وقلبي، بل وفي كل حياتي.