سكوب الموسم

نجاة غفران

 


الثالثة والنصف صباحاً. ارتدت سترتها الجلدية القصيرة، ولفت شالها الصوفي حول عنقها، وتسللت خارجاً.
سكان البناية نيام. لن ينتبه إليها أحد.


خطت بحذر نحو السلالم، وانفتح فجأة باب شقة إلهام.
«مجنونة أنت؟ سترمين نفسك بين براثن الوحوش؟» همست جارتها بغيظ، وتابعت حينما هزت كتفيها باستسلام، دون أن تعرف بِمَ ترد عليها: «لقد فقدتِ عقلك حقاً... كنت أعرف... لم تسمعي حرفاً مما قلته لكِ أمس...».


لم يكن عليها أن تحدث جارتها عما قررت فعله.
تعرفتا على بعضهما حين استقرت في الشقة، منذ عامين. إلهام مدرسة عزباء، تجاوزت الثلاثين بقليل. حظها مع الرجال سيئ. خطبتان فاشلتان وقصص حب كثيرة وبئيسة. وهي، بعد طلاقها المدوي من ابن عمها الذي قرر أن يأتيها بضرة، لم تعد تثق في أحد، ولا حتى في أهلها الذين وقفوا بجانبه، وحاولوا إقناعها بالبقاء معه. رجل أعمال في مستواه لا يُترك. هذا ما قالوه. وهو لم يخطئ في حقها، ولم يخفِ عنها ما قرره.


غادرت المدينة ورحلت إلى الشمال، وبدأت حياة جديدة.
«ارجعي يا مجنونة. سينهشونك بلا رحمة...».
«لا تخافي...» ردت وهي تبتعد بهدوء «إنها فرصتي...».


دفعت باب البناية الحديدي الثقيل وخرجت. الظلام يلفّ المكان. سكون ثقيل يجثم على الشارع. تحركت صوب الموقف، حيث ركنت سيارتها الفيات القديمة. الموعد ما بين الرابعة والخامسة قبل الفجر. رئيسها يريد مادة مثيرة. وهم يشكلون «سكوب» هذه الأيام.
انطلقت بالسيارة في الشوارع المبللة بزخات الخريف التي هطلت بداية المساء. السماء لا تزال ملبدة بالغيوم، لكنها لا تمطر.


توجهت صوب الضاحية الغربية، حيث يمتد شريط من أشجار الأوكالبتوس، مخترقة وادياً تملؤه النفايات والأزبال. أوقفت السيارة خلف آخر مباني الضاحية، ونزلت متوجهة نحو صف الأشجار العالية التي تعانقت أغصانها مشكّلة ممراً غابوياً مخيفاً. نظرت إلى ساعتها، وتحسست سلاحها الثمين. قريباً سيأتون...
واصلت المشي ببطء وهي تبحث عن أفضل الزوايا.


صاروا حديث أهل المدينة. الضحايا الثلاث الذين خلفوا وراءهم شكلوا صدمة للرأي العام. صبيتان في مقتبل العمر، وشاب رياضي يركض في فرقة تابعة لنادي ألعاب القوى. كيف تمكنوا منهم؟ لا أحد يعلم. بقايا الجثث وجدت مرمية هنا وهناك. طوّق البوليس المكان بضعة أيام، وجرى البحث بدقة دون أن يتم العثور على الجناة. كأنهم فصوص ملح ذابت. كثرت الأقاويل، وبدأ الناس يخترعون قصصاً عجيبة. هناك وحش في الضواحي. هناك جنّ يعتدي على من يقترب من مكان سكناه. هناك لعنة في الوادي. وخرافات أخرى لا يصدقها عقل.


تحمست للأمر وتابعتهم. وأتاها الخبر. يمرون في ساعة معينة أحياناً. ويختفون تماماً غالب الأوقات.
نظرت حولها وانتبهت إلى أنها ابتعدت كثيراً. إلهام محقة. إنها تخاطر... ولكنه... «سكوب» الموسم.
السكون تام، والهواء ثقيل، والجو ينذر بالمطر.


تأوهت، وانبعثت أنفاسها الدافئة شريطاً بخارياً رسم شكلاً حلزونياً أمام وجهها، ودق قلبها وهي تتلفت وتطوق صدرها بذراعيها.
إنهم يقتربون.
شعرت بهم قبل أن تسمعهم.
تسللت بحذر خلف صف الأشجار، ومدت يدها المرتجفة إلى صدرها تخرج سلاحها الثمين.
اقتربوا أكثر، ورفعت آلة التصوير، وصوبتها نحوهم.
قافلة من الكلاب الضالة المتوحشة.


تحركت أصابعها تكبس زر الآلة بنشوة وتأخذ الصور تلو الصور. موضوعها جاهز. سرّ الجرائم الثلاث. كلاب الوادي الغامضة. وحوش الظلام التي تظهر وتختفي كالأشباح.
تزايدت دقات قلبها والحماس يتملكها. رئيس التحرير قال إنه سيضع موضوعها على الصفحة الأولى إن نجحت في أخذ صور للوحوش. مكانها في طاقم الصحيفة محجوز الآن. ريبورتاجها سيكسر الدنيا.
تقدمت خطوتيْن لتغيّر زاوية التصوير. الأشجار الكثيفة وضباب الفجر الثقيل والممر الحلزوني المخيف يشكّل خلفية ممتازة للصور. الرعب ينبعث من كل الزوايا.
تقدمت أكثر، واقتربت قافلة الكلاب وارتفعت همهمتها... وتدحرجت آلة التصوير بعيداً، وقد ابتلع نباح الكلاب الجائعة صرخات صاحبتها الممرغة أرضاً.