الحَرْقة إلى العالم الافتراضي

عبدالوهاب بن منصور


في أواخر شهر سبتمبر الماضي، حشد شاب جزائري، يبلغ من العمر إحدى وعشرين سنة فقط، آلاف الشباب، أغلبهم من المراهقين والمراهقات، بمقام الشهيد بالعاصمة الجزائرية؛ لأجل الاحتفال بعيد ميلاده. الحشد فاجأ الجميع، خاصة أنّه جاء بدعوة من شاب، كان قبل هذا شخصاً عادياً، يشتغل نادلاً بمطعم بالعاصمة الجزائرية. ولقبه على مواقع التواصل الاجتماعي «ريفكا».
والسؤال الكبير، الذي فرض نفسه على المتتبعين من صحفيين وإعلاميين، وحتّى بعض الوزراء: من هو هذا الشاب الذي استطاع أن يجمع كل هذا العدد من الشباب؟ وكيف تمكّن من جمع عدد، لم تتمكن من جمعه لا الأحزاب السياسية ولا الجمعيات الثقافية، باستثناء مباريات كرة القدم في الجزائر؟!


في مقابلة صحفية لـ«ريفكا» مع إحدى القنوات الفضائية العربية، قال إنّ لقبه (ريفكا) هو تجميع لاسمه «فاروق»، واسم أخيه «رشدي»، لا رمزية فيه، ولا إحالة معينة، ولا علاقة له بالسياسة وبالسياسيين، لكنّه أكدّ أنّه باستطاعته الآن أن يغيّر من تفكير الشباب الجزائري ويؤثر فيه.


شهرة «ريفكا»، التي تعدت حدود الجزائر اليوم، بدأت مع نشره لفيديو بسيط ومضحك. فيظهر مع أمّه وهي تسُوق سيارتها، ثم يخرج رأسه فجأة من نافذة السيارة، ويقوم بالتبليغ عنها لشرطة المرور؛ لأنّها تسوق سيارتها وهي منتعلة «بليغة» (خُفّاً). والسياقة بالخفّ ممنوعة في الجزائر، ثم توالت فيديوهاته الساخرة، مثلاً وهو يرمي بجسده داخل شاحنة جمع القمامة!


عيد ميلاد «ريفكا»، أسال كثيراً من الحبر، بين معارض ومؤيد، فالمعارضون استنكروا بشدّة الفعل، ورأوا فيه تهديداً مباشراً لقيم المجتمع وثقافته. واستغربوا من التفاهة، التي تحوّلت إلى ظاهرة تجمع الشباب الجزائري. أمّا المؤيدون؛ فرأوا في «ريفكا» ممثّلاً ساخراً، لم تُتَح له فرصة الظهور؛ فلجأ إلى مواقع التواصل لإظهار موهبته.


«ريفكا» شاب جزائري من الجيل الجديد؛ جيل الإنترنت بكلّ سلبياته وإيجابياته، وهو يمثل شريحة واسعة، من الشباب الجزائري، تعيش داخل عالم افتراضي؛ فتتكلم بطريقة جديدة، إن لم نقل غريبة، وتفكر بطريقة مختلفة، لا صلة لها بالواقع؛ بمعنى أنّها استقالت من الواقع؛ بحثاً عن عالم آخر؛ عالم أكثر تسامحاً، وحرية في نظرها. والاستقالة من الواقع ليست إلا «حرْقة» (هجرة سرية) إلى الافتراض، ولا تختلف كثيراً عن الهجرة السرية لفرنسا أو ألمانيا أو إيطاليا.


أما التّجمع الكبير الذي حدث في مقام الشهيد؛ فما هو إلا محاولة لنقل هذا الواقع الافتراضي وتفاعلاته إلى الواقع وتجسيده. وفرض واقع جديد من جيل جديد، على أنقاض جيل قديم أو تقليدي، ربّما هو إعلان بسيط على شهادة وفاة الجيل القديم!
لكن علينا أن ننظر لهذه الظاهرة الجديدة، والتي لن تتوقف مع «ريفكا»، بنظرات فاحصة وناقدة لفهمها، وليس بالتقليل من أهميّتها، واعتبار مواقع التواصل عيادات نفسية مفتوحة ومتاحة للجميع.