سيرة شتوية

جيهان كندي


مقالي هذا، اخترت له خلفية رحبانية تناسب أبعاده المبللة، وكأنه مظلة أنهكها الهطول! أو «كنزة صوفية لم تجف بعد» يفوح منها عطر من نحب!
لا أدري ما هي علاقتي بالمطر.. أعتقد تربطني به علاقة دم! ولا أدري أهي من جهة الأم أم الأب؟!
و«بعدك على بالي يا حلو يا مغرور، يا حبق ومنثور على سطح العالي»... لماذا المشاعر تصبح أكثر حدة وصخباً في الشتاء؟!
لماذا يئن الحنين على إيقاع مطر النوافذ؟! ما هي حيلة الدموع تحت المطر؟! ولماذا تصبح ملامح الأحبة لوحة زيتية عميقة ذات شجن؟!
و«سألتك حبيبي لوين رايحين.. خلينا خلينا وتسبقنا سنين!!».


مشاوير المحبين بطريق مبتلة لا تنتهي.. وأظنها تمتد تجاه رائحة الطين، بروفايل المطر يكفي لإعطاء تفاصيل رومانسية لا حاجة لطاولة ومزهرية ونادل! يجلسون على رصيف لا مارة به.. تحت قناديل تُهدد بالانطفاء!
«رجعت الشتوية.. ظل افتكر فيّ»...


مع بداية كل شتاء... تتجدد العهود والمواعيد.. تكثر المراسيل والوقوف تحت شبابيك الهوى! «سألوني الناس عنك سألوني قلتلهم راجع إوعى تلوموني»! وإن كان لفيروز رأي آخر! الحب والانتظار لا يعرفان موسماً.. «حبيتك بالصيف، حبيتك بالشتا، عيونك الصيف وعيوني الشتا».. المشاعر تنبض بكل الفصول! لكنها قد تأخذ أشكال الفصول الأربعة... فحيناً تدفأ القلوب، وحيناً تبرد! وحيناً تغطي أبوابنا هدايا الورود، وحيناً تكثر مواسم تساقط الدموع!
«تلج تلج.. عم بتشتي الدني تلج، وكل قلب وكل مرج زهر فيه الحب مثل التلج..».


لكن ما أنا متأكدة منه أن الشتاء فصل الصُحبة والرفقة الطيبة ولا تصلح الوحدة به أبداً...! جميلة هي أمسيات الليالي الباردة وتبادل الحكايا.. جميل هو تصافح الأيدي وتشابكها على الطرقات.. جميلة هي الأصوات المرتعشة التي تتمنى لنا نوماً دافئاً والهدايا المبلل تغليفها!
ومع بدايات كانون الأول، السهر والأحاديث يصبح لهما طعم آخر محمص، مكرمل، لا أدري، لكنه شيء لذيذ، ورائحته تملأ الممرات التي لا توصلنا لشيء.. ونصبح فيها نَهِمين نريد المزيد.. وننتهي منها حين يذوب آخر ذوبان بمارس!


«قد إيش كان في ناس على المفرق تنطر ناس وتشتي الدني ويحملو شمسية وأنا بأيام الصحو ما حدا نطرني!»
وقع المشاعر في الشتاء يتضاعف، بكل الاتجاهات! سواء كنت برفقة أحدهم، وحيداً أو مفارقاً. فكل شيء بهذا الفصل قد يتساقط! المطر، ورق الشجر، دموعنا وبعض البشر!
يظل الشتاء نكهة، تضفي مذاقاً طيباً!! مثل قوالب السكر، الفانيليا، وماء الورد.. وبحالات حرجة، يعصف بكؤوس مضمونها دافئ! (نعوذ بالله من شتاء القلوب).
لمن يروقهم وضع معالم «رجل الثلج» بقلوب أحبتهم... حباً بالله.. هل استبدلتم «الجزرة» بجورية حمراء!


«عزائي ودعائي لهم بأن تشرق شمساً تذيب ملامحه»... بعيداً عن ربط المشاعر بفصل معين! دعوني أختم بوصلة أكتوبرية:


في الأجواء شيء من نسيم الزعفران، قشر البرتقال، أقداح اللوز وخشب الصندل تفوح بالمكان..
في الأجواء حكايا السَحر، همس عجوز، ضحك الإناث واستغفار والدي.
في الأجواء ظل رحى، خبز محروق ومطر الله يبلل ثياباً منشورة..
أوقع هذه المرة تحت اسم... أنثى المطر وزوجاته الأربع..