رقعة الشطرنج

نجاة غفران

 

نزعت نظارتها الطبية، وتأوهت بألم، وهي تسند رأسها إلى ظهر المقعد الوثير. المرسديس السوداء تشق طريقها بسلاسة في شوارع الحي الإداري. أنهت أغلب المهام التي كلفها المسؤول بها. غيرت مواعيده حسب طلبه، ونظمت لقاءاته ليوم غد، وراجعت أعمال الأيام الماضية، وأنجزت التقارير المطلوبة، وبقيت جزئيات صغيرة ستهتم بها صباح غد. كان من الممكن أن تنجزها هي أيضاً، ولكن صداع الرأس الشديد الذي لم يفارقها طيلة النهار منعها من البقاء فترة أطول في مبنى الوزارة.


تحتاج لمراجعة الطبيب رغم أن وقتها محسوب، لكنها تعبة. جسمها يتحرك بالعافية، ودماغها يكاد ينفجر، ونفسيتها في الحضيض. منذ فترة الأمور تزداد سوءاً، وهي تؤجل التفكير في الموضوع.


عياء عادي بسبب ضغوط الشغل. ستعتاد، وتعود الأمور لحالها.
لكنها لم تعتَد. مسؤولياتها ترهقها واعتماد رئيسها عليها في كل كبيرة وصغيرة يثير جنونها، حتى أموره الشخصية أحالها عليها. سفريات زوجته ومواعيدها واحتياجاتها الخاصة. صارت مدبرة منزل، وليست سكرتيرة إدارة فقط.


لا يمكنها أن تشكو، ولا أن تتفوه بكلمة.
سلك السائق طريق الكورنيش، وفتحت النافذة؛ لتتنفس هواء البحر البارد. أفضل شيء في عملها أن راتبها المجزي مكنها من الحصول على قرض ممتاز لشراء بيت يطل على البحر؛ حلمها منذ الصغر.


توقفت المرسديس أمام الشاليه الصغير المبني على رابية تتناثر فوقها منازل مماثلة يقطن أغلبها أجانب يقضون نصف العام في البلد، ونصفه الآخر في مواطنهم الأصلية.
ودعت السائق بابتسامة مرتجفة، وصعدت الدرجات الثلاث المؤدية لمسكنها، وهي تكز على أسنانها بألم. الصداع الرهيب يزداد سوءاً، وساقاها تحملانها بالكاد، وكعب الحذاء العالي ينفذ كالسكين أسفل قدميها.


انحنت لتنزعه، وتأوهت بصوت عالٍ وموجة ألم جديدة تشطر دماغها.
صفقت بالباب، ورمت الحذاء وحقيبة يدها في الردهة، وتوجهت رأساً نحو البراد. صبت لنفسها كوب حليب بارد، أتبعته بقرصي إسبرين، وتوجهت نحو غرفتها. يجب أن ترتاح، لا رغبة لها بشيء غير ذلك.
ارتمت على السرير، وغطت في نوم عميق.


أيقظها المنبه كالعادة في السابعة صباحاً، فركت عينيها وبقايا حلم مقلق تدور كمشاهد فيلم واضح في ذهنها. كانت تجلس في مكتبها، وأمامها شاشة كبيرة بها مربعات بيضاء وسوداء تحمل أرقاماً وحروفاً وتواريخ وتواقيت مختلفة. وعلى الرقعة أشخاص يتحركون كالدُّمى، وهي تتابعهم وتتحكم في تحركاتهم، وأمامها أجندة العمل، والمسؤول يستعجلها من هاتف المكتب بأن تغير مواعيده، وأصابعها تنقر بتوتر لوحة مفاتيح الشاشة لتحريك الأشخاص حسب تعليمات المسؤول..
جلست في السرير بامتعاض، ونظرت إلى ملابسها، لم تغيرها؛ لا عجب أنها لم تنم جيداً، ولم ترتَح.
ستارة شرفتها التي بقيت مفتوحة تتطاير مع نسمات البحر الصباحية الباردة. الهدوء يعم المكان، وحده صوت الموج يعلو ويهبط بسكينة.
تحتاج لأن ترتاح.


فكت أزرار قميصها وتنفست عميقاً.
تحتاج لأن تسترخي، وتشعر بحس الطبيعة، وتنسى أجندة الشغل ومطالب المسؤول وبرامج تنقلاته ومشكلات زوجته..
لن تذهب إلى المكتب اليوم، ولا غداً، ولا بعد غد..


قامت ودماغها ما زال ثقيلاً من الصداع، دلفت إلى الحمام تأخذ دشاً، وارتدت بذلة رياضية مريحة، وجلست أمام فنجان شاي ساخن، تتصل بالمسؤول وتعلمه بقرارها.
ثارت ثائرته، وصرخ يأمرها بالحضور من الفور، وإلا فستُفصل. أرغى وأزبد، وأعلن أنه لن يقبل أي عذر، ثم حاول أن يناقشها وذكرها بمواعيد اليوم المهمة، ثم بدأ يطلبها بنبرة لم تتعودها منه أن تعدل عما تفكر فيه، وأخذ يغريها بالراتب الذي سيزيده والإكراميات التي ستحصل عليها والمزايا والمحفزات والسفريات... ولكنها أصرت على قرارها.
لن تأتي إلى المكتب.


ودعته، ودست سماعتي هاتفها في أذنيها، وشغلت موسيقى مرحة، وخرجت تجري على الشاطئ.
ضرب المسؤول بسماعة هاتفه الفخم بحنق، ونظر إلى شاشة الكمبيوتر؛ حيث أجندة اليوم التي يجب أن تُعدل. تغييرات طارئة يُفترض أن تتكفل بها السكرتيرة. حاول أن يقوم بالعمل بنفسه، وبعد نصف ساعة من المحاولات العاثرة، شد رأسه وهو يئن. خانات المواعيد تتراقص أمام عينية كرقعة شطرنج تتجاذبها بيادق مستعصية. حك رأسه وهو يشعر بصداع يكاد يفجره.


فك ربطة عنقه، وقام يطلب سيارته.
سيعود إلى منزله ويرتاح.
يحتاج لأن يتنفس.. بعيداً عن المكتب.