الحب الأول والأخير

نجاة غفران


أسبوع قبل موتك، ذهبت لأراه.
نظرت إليك طويلاً وأنت غارقة في فراش المرض. كتلة عظام رقيقة، خفيفة، مخيفة. أنابيب الأمصال تحيط بك، وجهاز التنفس الاصطناعي يهز صدرك الضعيف ببطء، وأنت غائبة عن الوعي. شبح غائص في البياض. صورة مضببة لذكرى إنسانة. لم يعد البكاء يجدي. نظرت إليك طويلاً، طويلاً، وقلبي يتقطع. أجندتك الأثيرة موضوعة على المنضدة الصغيرة جنب السرير. أجندة العمل. وآلة تصويرك. وقلادة الأصداف التي لا تفارقك.
لطالما أحببت البحر، والسفر، والمغامرات. أين كل ذلك؟ ماذا بقي من صحفية الأسفار التي كنت أعرفها؟
نظرت إليك حتى آلمتني عيناي. سمعت الطبيب يقول شيئا لذويك. تكرر الكلام الذي ردده الطاقم أمامنا منذ أيام. أسبوع على الأكثر. لن يصمد جسمك الضعيف أكثر.
شهيق بكاء والديك، وتمتمة أخيك وزوجته، وهروبي.
لا أدري كيف حدث ذلك.
مددت يدي إلى أجندتك وآلة تصويرك، وانسحبت بصمت.
تسع سنين ونحن نعمل معاً. تخطفين الجمال بحسك الفوتوغرافي في أصقاع الدنيا الأربع، وتنثرين انطباعاتك كلاماً غير مفهوم في أجندتك السوداء الثقيلة، وأصوغه جملاً وأفكاراً وأحداثاً تملأ ريبورتاجاتنا حيوية وحياة. لم نترك بلداً لم نزره، ولا ثقافة لم نتشرب منها. قابلنا أناساً كثراً، وخضنا مغامرات وقصصاً يصعب على العقل تصديقها، وعشنا أشياء عظيمة حقاً، وبسيطةـ وإنسانية، ورقيقة. كيف لي أن أستمر في كل هذا دونك؟ كيف أعيش؟ كيف أتنفس وأنت ترقدين هناك؟... خيال إنسان كان... خيال إنسان في طريقه إلى أن يمضي دون رجعة.
حملتني خطواتي إليه. حبيبك الدائم، حبيبك الصامت الذي لا تخلفين مواعدك معه كلما عدنا أدراجنا إلى الوطن.
تركت السيارة أسفل الربوة المطلة على الشاطئ البعيد، وبدأت أصعد وأنا أحضن أجندتك وآلة تصويرك. لا أدري كيف مضت الساعات فصلتني عن لحظة هروبي من جنبك. لن أدعك تخلفين موعدك معه. سأراه، سأكلمه، وسأحدثه عنك، وعما يجري لك.
الحصي الصغيرة التي تملأ الممشى المغبر تعيق تقدمي. ولكنني أمضي ودموعي تسبقني. رائحة اليود البحري تملأ الأجواء، والريح تدفعني إلى الأعلى وتبعثر شعري في كل الأنحاء. ألتفت إلى البحر الممتد إلى ما لانهاية. مياهه المالحة تتعالى أمواجاً عنيفة تضرب المنحدر الصخري أسفل قدمي. مياه مالحة هناك. ومياه مالحة على وجهي. دموعي لا تنحبس، وأنا ألهث وأتقدم نحوه وقلبي ينزف بوجع.
وهو واقف هناك، على حافة المنحدر. ينتظرني. أو لعله... ينتظرك.
حبك الأول والأخير يقف بصمت متحدياً الرياح والغبار والموج والجو البارد. ينتصب بصمت وشموخ. وأتقدم نحوه ويداي تشدان الأجندة وآلة التصوير.
أقف على بعد أمتار منه. المكان منعزل. وحدها طيور النورس الجائعة تحوم حولنا. لا أحد هنا غيرنا. وصوت ارتطام الموج بالصخر، وهدير البحر، ورائحة اليود.
أضع الأجندة أرضاً، وأحمل آلة التصوير، وأصوبها نحوه.
ستكون هدية وداعه. صورته الأخيرة التي سألف أصابعها المريضة حولها.
نقرة. نقرتان. عشرات النقرات وأنا أبكي وأشهق كالمجنونة.
أتناول الأجندة وأفتحها على الصفحة الأخيرة. وأكتب تاريخ اليوم والساعة. ويبدو لي خطي المرتعد غريباً بين سطورها الأنثوية الأنيقة. أحاول أن أكتب شيئاً. أي شيء، كما دأبت أن تفعل كلما جاءت إليه، ولا أفلح. وحدها دموعي الحانقة تمطر الصفحة وتفيض مداد ما كانت قد خطته. تذوب سطورها بين القطرات الدامعة وأراها تتلاشى، كما تركت صديقتي تتلاشى في بياض فراش المرض.
أشهق من جديد وأغلق الأجندة وأتقدم نحوه وأنا أرتجف وأبكي، وأصيح وأصرخ، وأرتمي عند قدميه.
فنار الشاطئ القديم. حب صديقتي الأول والأخير. وملاذها المفضل كلما أعياها السفر وضاقت بها الحياة.