غضب.. ومثلجات باردة

نجاة غفران

 

منذ بداية الأسبوع وأنا أحاول أن أتكيّف مع الوضع الجديد، زوجتي غائبة، شركتها بعثتها في مهمة عمل خارج البلاد، أولى بشائر ترقيتها الأخيرة، أعرف الآن لماذا انقبض صدري عندما هرعتْ فرِحةً إلى البيت تزفّ إليّ خبر استلامها رئاسة قسم المعاملات الخارجية، فكرت حينها في المسئوليات الجديدة التي ستبعدها أكثر عن البيت، إحساسي بالامتعاض الشديد كان عميقاً، ولعلي استشرفت قبل أن أفهم ما يدور في دماغي تعقيداتٍ أخرى بانت بعد خبر السفرية الأخيرة.
لدينا طفل في السادسة من عمره، كيف أرعاه وأنصرف لشغلي في نفس الوقت؟ وماذا أقول لمدبرة البيت التي تعوّدت زوجتي على التعامل معها؟ لا فكرةَ لديّ عن ترتيبات الأكل والشرب واحتياجات الصغير.. زوجتي قالت إن الأوان حان لكي أشاركها مسئوليات البيت، لم يسبق لها أن طرحت الموضوع للمناقشة، ولم يتهيأ لي أن ثمة مشكلة في إشرافها على هذه الأمور، لا أدري ولكنني شعرت بأن ترقيتها أدارت دماغها وجعلتها تتخيل أنها تترأس قسماً مهماً آخر في البيت.
أيام الأسبوع الأولى مرت فوضويّة للغاية، أكل غير منظّم، نوبات بكاء الصغير دفعتني لتخزين كمية هائلة من المثلجات ألجأ إليها كلما احتجت لهدنة في البيت، هندام غير منظم أوقعني في مواقف محرجة للغاية؛ إذ وجدتُ نفسي أرتدي جوارب غير متناسقة وقمصان مكرمشة وسترات علق بها بعض الطعام، وابني الذي أخذ راحته في اللباس؛ لأن عين أمه الحذرة لم تعد تتفقده، أصيب بنزلة برد تلتها نوبات سهر ليلية بسبب ألم أسنان حاد، في نهاية الأسبوع وجدتُ نفسي أقوده إلى المستشفى بعد أن استفحلت آلامه ولم نعد يغمُض لنا جفنٌ نحن الاثنين.
لم أقوَ على سياقة السيارة، وقفت مع ولدي على الرصيف أنتظر سيارة أجرة، ونحن نتمايل من التعب والنعاس،
طال انتظارنا، وبدأ الصغير يبكي وقد عاوده الألم، وانحنيت أمسح دموعه وأتوسل إليه: «اهدأ قليلاً يا بني، سيعالجك الدكتور، وسنشتري البالون الذي تحبه، ونذهب لاستقبال عمك في المطار.. أتتذكر.. المطار الذي رافقنا ماما إليه عندما سافرت.
نظرتُ حولي ولمحت باصاً يتوقف في الطرف الآخر من الشارع، حملت ابني وجريت إليه، لا يمكن أن أصبر أكثر.
شخص ما، كان يعزف مقطوعة حادة وسط الحافلة، موسيقي متنقل على ما يبدو، عزفه السيئ زاد من انفعالنا، وحولت نظر ابني إلى النافذة لأشغله عن الرجل.
بعد حين، توقف العزف ودار الموسيقي بقبعته على الركاب القلائل الذين رموا فيها بعض النقود، وانتهى به الأمر قربي، طلب مني معونة، والتفتُّ أحدجه بانفعال وأقول له إنني لم أسمع موسيقى تستحق أن أدفع ثمنها، هز الرجل رأسه، واقترب أكثر وانهال على كمانه يعذبه تعذيباً ويصم آذاننا بنغماته الناشزة.
استمرت المحنة حتى توقف الباص أمام المستشفى، وسحبت بغيظ بعض النقود من جيبي ووضعتها في قبعة الرجل، وابتعدت وأنا أشرح لابني الذي أسكته الغضب الذي أَحس به في ارتجافة جسدي: تعلم مني يا بني، قل «لا» عندما ترفض أمراً، ولا تخش أحداً..».
الفحص الطبي لم يأخذ وقتاً، غادرنا المستشفى بعد أن عالج الدكتور أسنان الصغير، وانطلقنا إلى المطار لاستقبال أخي العائد من دورة تدريب جامعية في أسبانيا، وقفت خلف ابني الذي كان ينظر بزهو للبالون الأحمر الكبير الذي اشتريته له، توقفت آلامه ولم يعد يفكر سوى في المثلجات التي سنتناولها بعد عودتنا إلى البيت، وعدته بها، رغم أن الطبيب نصح بأن أنتبه لأكله.
تقدم المسافرون نحونا، وصاح أخي من بعيد حين لمحنا، ورمى حقيبة ظهره وجرى فاتحاً ذراعيه لابني الذي هرع بدوره له.
وهنا.. حدث أمر لم أفهمه.
صاح ركاب الطائرة وجروا مبتعدين، وارتفعت جلبة رهيبة، وهرع رجال أمن طوقونا من كل الجوانب، وساقونا أنا، وابني، وأخي نحو ممر جانبي، ومنه إلى مكتب أمن المطار.
رضخنا لتحقيق سريالي لمدة أربع ساعات.
وغادرنا المكان بعد أن أعيدت لنا أغراضنا، بالون ابني، ومحفظة جيبي، وحقيبة ظهر أخي التي ظن الركاب عندما رأوه يرميها أرضاً ويجري هارباً بأنها تحوي متفجرات.
أعلن ابني ونحن نتناول المثلجات التي وجدت نفسي أحتاج إليها لأبرّد نار حنقي، أنه يودّ عندما يكبر أن يصبح مثلي.
ابتسمت بحنوّ وقد تملكني الفخر، وسأله أخي مازحاً إن كان معجباً بعضلاتي الواهنة أم بوظيفتي الصغيرة التي لا تكسبني الكثير من المال، ورد ابني بثقة أنه يودّ أن يصبح مثلي ليكون له ولد يشبهه، يتحمل مشاكل والده، وغياب أمه.
انفجر أخي ضاحكاً، ودسست ملعقتي بغيظ في كريما المثلجات وأنا أدمدم بكلام غير مفهوم