كبير يتقلص

نجاة غفران


قضم ساندويتشه وهو ينظر حوله بامتعاض. لا طعم لأكله. نظرات الازدراء التي حاصرته في المصعد لا تزال تلاحقه. وتوبيخ الناس، وصمت الرجل الذي تعرض لإهانته. لم يكن يقصد طبعاً. رغبته الجامحة في ممازحة كل من يقترب منه أزلت لسانه من جديد. ووضعته في موقف لا يحسد عليه.
تنهد ووضع الساندويتش على المقعد الحديدي الذي تعود على الجلوس عليه كلما جاء إلى المتنزه. فسحة غدائه قصيرة. لكن البنك الذي يعمل فيه غير بعيد. وتناول طعامه هنا، أمام بحيرة البط المظللة بصفوف كثيفة من أشجار البلوط الخضراء، يريح ذهنه وينسيه لفترة أعمدة الأرقام التي يشتغل عليها في مكتبه. ملفات الصباح كانت معقدة أكثر من العادة. ثريا، زميلته في القسم، رفضت مساعدته حين طلب منها إعداد بعض الإحصائيات التي يحتاج لها. اضطر للاشتغال على الملفات بوتيرة جنونية. هو يعذرها طبعاً. قفشته الصباحية كانت مريبة، وثريا سيدة جادة لا تتقبل خفة دمه، وهو اختارها ضحية لمقلبه لهذا السبب بالضبط.
ابتسم وهو يتذكر كيف هرع إليها في اجتماع الصباح وصافحها بحماس وعطس في وجهها ثم التفت لبقية الزملاء وأعلن معتذراً: « لن أستطيع مصافحتكم، لست بخير، أظنني أصبت بنزلة برد... لا أريد أن أنقل العدوى إليكم...»
فيض الهلع الذي نط من عيني ثريا كان كافياً ليفقده مسحة الجد التي تعمدها، نظر إليها ثم إلى زملائه واهتز جسده الضخم وهو ينفجر ضاحكاً ويخبرهم بأنه كان يمزح. ابتعدت زميلته بغضب ووبخه الآخرون وضحك بعضهم معه.
ودفع هو ثمن خفة دمه حين اضطر للاشتغال وحده على ملفاته.
سمع حركة جانبية، والتفت ليرى شخصين يجلسان على المقعد الذي يبعد عنه بضعة أمتار. رجل أنيق وشابة جميلة. تناول جرعة من المشروب الغازي وقضم ساندويتشه وهو يتذكر حادثة المصعد. غادر مكتبه وعيناه تعبتا من التحديق في كومبيوتره. وجد المصعد مكتظاً بالناس. وكان هناك طفل يقف عند الباب ويحصر بجسده مدخل المصعد. تساءل ماذا يفعل طفل في بنك وقت الظهيرة. لعله رافق أحد الزبناء. خاطبه وهو يقترب من المدخل: « تنح قليلا يا صغيري. ستعلق في الباب عندما يقفل. ثم قل لي... ماذا تفعل هنا؟ ألا يجدر بك أن تلهو بلعبك أو تركض مع أصحابك؟ هناك متنزه قريب من هنا... هل تعلم؟»
هنا تلفت «الطفل» وقفزت عينا الموظف من محجريهما وهو يحشر نفسه في المصعد ويتمتم باعتذار غير مفهوم وبسمة لا إرادية تعلو وجهه. كان «الطفل» رجلاً قصير القامة للغاية... رجلاً في الأربعينات على الأقل.
أنهى ساندويتشه وهو يهز رأسه باستسلام. قفشاته ستوديه في داهية يوماً.
الناس لا يستظرفونه.
بلع آخر جرعة من مشروبه الغازي، وقام يلقي بقايا أكله في صندوق القمامة القريب من مقعد جاريه.
التفت إليهما بفضول. المرأة شابة جميلة حقاً. عيناها دافئتان وشعرها القصير يتموج بعذوبة حول وجهها. ورفيقها ذو جسم رياضي محشور في بدلة زرقاء داكنة، تلائمه تماماً. ونظارته... حملق فيها بفضول واتسعت ابتسامته. نظارته الشمسية مضحكة حقاً. ضخمة تكاد تغطي نصف وجهه، سوداء قاتمة، بيضاوية الشكل، محاطة بإطار عاكس غليظ، يلف كالحزام وجهه.
«عذراً... » قال مخاطباً الرجل «كيف تستطيع أن تتبين طريقك بهذه النظارات؟ العمى أرحم منها... ألا تظن؟»
همت الشابة بأن ترد عليه، لكن الرجل وضع يده على ذراعها، وسحب نظارته بهدوء، وتطلع إلى موظف البنك.
عيناه الميتتان في محجريهما لم تكونا ترياه.
كان أعمى.
لم يقل شيئاً.
تمتم الموظف معتذراً بارتباك، ومضى وهو يشعر بجسده الضخم يتقلص شيئاً فشيئاً تحت ثقل حقارته.