كل من يقول إنَّ الحبَّ أعمى هو إنسان يتناسى ضعفه أمام من يحب، ويرضى بتصرفات لا ترضيه، ويقبل بوضع لا يعجبه، ويتنازل عن حقوقه، ويتغاضى أحياناً عن كرامته، ويبرر أفعاله بأنَّ المحبَّ لمن يحب مطيع. ولكن الحبَّ ليس أعمى؛ لأنَّ الحبَّ يكمن في التسامح، والتوافق، والود، والثِّقة، والعزَّة، والمشاركة، والأمان.. ولن يكون الضعف، والذل، والمهانة، ولا العطاء والتنازل من طرف دون الآخر، ولن يعيش إذا كان يسير في اتجاه واحد، ولن يستمر إذا تجاهل طرف العطف، والحنان، وأغدق الآخر من دون مقابل، فطرف يستقبل ويستورد، والطرف الآخر يرسل ويصدر. وحتى يدوم الحبُّ لابد أن يكون التبادل في الاتجاهين معاً، فالحبُّ فيه من الواقعيَّة أكثر من الرومانسيَّة، وفيه نعيش الحقيقة وليس الزيف، المجاملة وليس النفاق، فيه نخاف على من نحب ولا نخاف منه.
ومع الأسف في هذا الزمن تحطمت الرومانسيَّة، وقتلت، وانتحرت تحت وطأة الواقع رغم مكابرة البعض بوجودها، وأنَّها لا تزال تحيا بيننا، لكنَّها في الوقع أصبحت تعيش في خيالنا وأحلامنا، وشتان بين الواقع والأحلام، وشتان بين الحبِّ والزواج، فكل فرد يتخيل أنَّه مقدم على حياة ستكون أسطورة بدأها بالحبِّ وستستمر وتموت به. ولكن مع مرور الوقت يبدأ العد التنازلي للسعادة عند مصادمته مع الواقع، وما يحمله من مسؤوليات ورؤية كل زوج للآخر على حقيقته دون مجاملة أو رتوش، ودون هدايا وسهر، أو سماع ما تهفو له القلوب، ولحظتها يشعر كل زوج بأنَّه غريب عن الآخر، فالملامح كما هي، لكن التصرُّفات تبدلت؛ لأنَّ العشرة تظهر كلاً على حقيقته.
فالزوجة تحلم بأن تستمر المعاملة الرقيقة الشفافة حتى نهاية العمر، والزوج يأمل بأن تستمر تلك الفتاة الجميلة في نعومتها، وتفرغها الكامل له، ولم يتصور أي منهما أنَّ هناك عيوباً في الآخر، تناسيا أنَّ العيوب قد تختفي بعض الوقت وليس كل الوقت، خاصة إذا كانت بين اثنين يعيشان تحت سقف واحد، وبين أربعة جدران ستظهر بالتأكيد، وتبدأ بعدها أول زوبعة فلا تقولوا إنَّ الحبَّ أعمى، فالحبُّ وحده لن يسامح الهفوات، ولن يداوي الجراح، ولن يزرع الفرح وينزع التعاسة. الحبُّ وحده لن يفتح بيتاً، ولن يبني أسرة، ويربي أطفالاً، ويسد الحاجات الاجتماعيَّة والماديَّة والنفسيَّة. الحبُّ وحده لا يكفي حتى تسير السفينة بهدوء، ولن تسير الحياة على قوة الحبِّ، لكنَّها تعتمد على رعايتنا واحترامنا وتقديرنا له، وأن ننظر إليه نظرة صادقة، فهو الإخلاص، والتوافق، والوفاء، والتفاهم، والتضحية، ومتى بدأ التنازل، وتلاشى العطاء، وتمسكنا بالصغائر وبالتوافه، وضجرنا من المشاكل، وهربنا من الأزمات فسيموت الحبُّ تلقائياً، والسعادة لن تتحقق إلا بالتسامح والتفاهم والعطاء