في إحدى أروقة "بيناكوتيكا دي بريرا" الساحرة بمدينة ميلانو، حيث تتناغم أعمال الفن العتيقة مع صمت المكان، شهدت الموضة لحظة وداع استثنائية، لم يكن عرض جيورجيو أرماني Giorgio Armani لربيع وصيف 2026 مجرد استعراض لأحدث تصاميمه، بل كان الفصل الأخير الذي خطه المصمم بيده قبل رحيله في 4 سبتمبر الجاري، وما كان من المفترض أن يكون احتفالاً بمرور خمسين عاماً على تأسيس الدار، تحول إلى شهادة حب وتقدير لواحد من أعظم أيقونات الموضة.
تحت عنوان "بانتيليريا، ميلانو" Pantelleria, Milan، جسَّدت مجموعة جورجيو أرماني حواراً أسلوبياً فريداً بين عالمين عزيزين على قلب المصمم: السيولة الهادئة لجزيرة بانتيليريا والهندسة الدقيقة لمدينة ميلانو، فلم تكن الأقمشة مجرد خامات، بل كانت تتدفق بخفة ورشاقة، وكأنها ترقص مع نسمات البحر وقوة المدينة في آنٍ واحد.
تدرجت الألوان بنعومة، من درجات الرمادي المائل للبيج المحايد إلى ظلال البحر الزرقاء، مع لمسات مفاجئة من البنفسجي الشرقي الذي أضفى عمقاً وجاذبية على القطع، وكانت المنصة مسرحاً يتناوب فيه الجاكيتات الرسمية مع الفساتين الانسيابية.
لتصل الرحلة إلى ذروتها في قطعة واحدة حفرت في الذاكرة: فستان أزرق برّاق يحمل صورة وجه أرماني، وكأنه نظرة وداع أخيرة منه لعالم أحبه وترك فيه بصمته الخالدة.
تجسيد الأناقة: عندما تروي الأقمشة قصصاً عن الفخامة
شهدت منصة العرض في بيناكوتيكا دي بريرا تجسيداً فنياً خالصاً لفلسفة أرماني، حيث تحولت التناقضات الجغرافية إلى سمات لافتة في التصاميم، سيطر على الإطلالات نغم النعومة، خاصةَ في الأقمشة المنسدلة التي احتضنت الجسد برقّة.
ظهرت أزياء النهار والمساء في حوار متناغم؛ فإلى جانب القطع الكاجوال الواسعة بألوان البيج والرملي الفاتح، برزت أناقة المساء التي غاصت في أعماق البحار، وتدرجت الألوان من الأزرق الكوبالتي الساحر، إلى الأخضر الزمردي العميق، ومروراً باللون البنفسجي الشرقي الغامض.
كان الملمس هو الأكثر لفتاً للأنظار؛ حيث تلاعب المصمم بالخامات اللامعة، فظهرت الساتانات الحريرية كما في السراويل الخضراء الداكنة، والتول الشفاف المطرّز بالترتر اللامع الذي يذكر بليالي بانتيليريا المرصعة بالنجوم.
كما أن الجاكيتات القصيرة والأكمام المنتفخة التي زينتها التطريزات ثلاثية الأبعاد اللامعة، كما في إطلالة السترة الزرقاء المائية، أكدت أن تفاصيل الأناقة لم تغب عن رؤية أرماني الأخيرة.
شاهدي أيضاً: روبيرتو كافالي ربيع وصيف 2026: تصاميم ذهبية تلمع من قلب ميلانو
تكريم بصوت الموسيقى وحب الأصدقاء
حضر العرض نخبة من النجوم والأصدقاء المقربين، من كيت بلانشيت Cate Blanchett وسبايك لي Spike Lee، إلى ماريسا بيرينسون Marisa Berenson وباولا كورتيلّيزي Paola Cortellesi، وكل منهم شارك الجمهور بكلمات وذكريات تكشف عن روح الرجل خلف الأسطورة، وتؤكد أن تأثيره يتجاوز مجرد تصميم الملابس.
لم يكتمل جمال الأمسية بالملابس فقط، بل بصوت الأصدقاء أيضاً، حيث صعدت الممثلات والمقربات إلى المسرح ليتحدثن عن تأثير أرماني في حياتهن، فوصفته كيت بلانشيت بـ"الصادق"، وغلين كلوز تحدثت عن صداقتهما الطويلة، فيما أكدت ماريسا بيرينسون أن أرماني "أبدي".
وفي الخلفية، نسجت موسيقى لودوفيكو إينودي الحية جواً من التأمل والهدوء، لتزيد من عمق المشاعر وتعزز من قوة اللحظة، وكانت الأنغام كهمسة رقيقة، تذكر بأن الأناقة ليست فقط ما نرتديه، بل ما نشعر به.
بيناكوتيكا دي بريرا: مسرح الوداع المهيب
لم يكن اختيار "بيناكوتيكا دي بريرا" مصادفة، بل كان إعلاناً بأن الموضة أصبحت جزءاً من الفن الإيطالي الخالد، إذ أقيم العرض في ساحة الشرف بالمتحف في 28 سبتمبر، وتحوّل الموقع إلى مسرح مهيب يليق بـ"الملك جورجيو"، كانت الأجواء تأبينية بامتياز؛ وجاءت إضاءة الساحة بالفوانيس، وانطلق بالتزامن مع العرض معرض "ميلانو، من أجل الحب"، الذي ضم ما يزيد عن 120 قطعة أرشيفية، في مشروع عمل عليه المصمم بنفسه حتى لحظاته الأخيرة، ليكون بمثابة هدية وداع لمدينة أحبها وأحبته، وكان العرض هو التوقيع الأخير للمصمم شخصياً، واعتُبر بمثابة "الوداع الملكي" و"الفصل الأخير" الذي عمل عليه قبل رحيله.
يجدر بالذكر أن المصمم الأسطوري جورجيو أرماني كان قد توفى في 4 سبتمبر 2025 عن عمر يناهز 91 عاماً في ميلانو، وأقيم عرض مجموعة جورجيو أرماني لربيع وصيف 2026 في 28 سبتمبر 2025، أي بعد أسابيع قليلة من وفاته.
فلسفة الأناقة التي لا تموت
ترك غياب "المايسترو" جيورجيو أرماني، فراغاً محسوساً في أسبوع الموضة بميلانو، مما جعل عروض علامته تحمل نكهة حلوة ومرّة، أبرزها مجموعة "إمبوريو أرماني" لربيع وصيف 2026، التي يُرجَّح أنها من آخر المجموعات التي مرّت تحت عينه الثاقبة، كانت مثالاً نموذجياً لمبدأه الشهير "الأقل هو الأكثر" (Less is More)، حيث استمرت رؤيته للمرأة في التركيز على القطع المفصّلة ذات السهولة المدمجة، حيث كانت البراعة في إضافة لمسات عملية، ولطالما كان نهج أرماني مختلفاً، فهو لم يقدم البهجة الصارخة كبقية العلامات، بل فضل الأناقة الهادئة والراقية، التي تتجلى في الظلال الناعمة، والأحذية المسطحة، وحقائب الكتف المرنة التي يمكن حملها كقابضة، أما رمز التغيير الوحيد فكان في الختام: فقد غابت تحية أرماني المعتادة ليظهر مكانه، ووسط تصفيق العارضات، ابنة شقيقه سيلفانا أرماني لتوجه تحية وداع للسماء، مؤكدة أن العرض سيستمر.
جيورجيو أرماني.. إرث يستمر وينبض بالحياة
لم يكن عرض أرماني الأخير هو النهاية، لقد أراد المصمم أن يذكرنا برمزه الجمالي: الأناقة التي تجمع بين الرصانة والنعومة، والجمال الذي ينبع من التوازن، لقد ودّعنا جيورجيو أرماني، لكنه ترك لنا إرثاً من الأناقة الخالدة، وترك للمصممين الشباب خريطة طريق واضحة: الموضة الحقيقية هي التي تجمع بين الرقي ببساطة، والأناقة الأبدية.
فهل سيستطيع عالم الموضة أن يحافظ على هذا الإرث الثمين؟
شاهدي أيضاً: في يوم ميلاده.. جيورجيو أرماني يعيد صياغة صيحات الموسم بتوقيعه
