mena-gmtdmp

دوام الحال من المحال

أميمة عبد العزيز زاهد

 

 قال الإمام الشافعي

 الناس بالناس ما دام الحياة بهم          والسعد لا شك تارات وهبات

 وأفضل الناس ما بين الورى رجل       تقضى على يده للناس حاجات

 

 يقال يا سادة يا كرام إنَّه في سالف العصر والزمان كان هناك رجل صالح ميسور الحال أتى إليه يوماً أحد معارفه طالباً منه مبلغاً من المال، فأعطاه ما طلب ورحل بعد أن شكره، وجلس بعدها الرجل الصالح يبكي ويبكي، فاستعجب رجل كان في مجلسه واستفسر عن سرِّ بكائه، خاصة أنَّه قد أجزل له العطاء، فأخبره الرجل الصالح الميسور الحال بأنَّه وبسبب إهماله، وعدم سؤاله، وجهله بمتطلبات من حوله قد أحوج السائل بطلبه. عرفتم ما المقصود من هذه القصة مختصرة الكلمات وعظيمة الفوائد. أكيد أنَّكم فهمتم بيت القصيد.. ترى كم يوجد الآن منَّا وبيننا ومعنا وفوق أرضنا رجل مثل ذاك الرجل الصالح الذي بكى؛ لأنَّه أحرج وأحوج أحد معارفه بسؤاله، واعترف وأقرَّ بأنَّه -وبسبب عدم إدراكه لظروفه- جعل صاحب الحاجة يأتي إليه بدلا من أن يبحث هو عنه، ويعرف على الأقل المحتاج من أقاربه ومعارفه وجيرانه ويعفيهم من مغبة السؤال، ويكفيهم ما استطاع من مال الله الذي أعطاه. فالإحسان هو أن تصون وجه السائل من ماء المذلة، ولو قسنا حياتنا بالقصة السابقة، ونظرنا حولنا فسنجد العجب العجاب؛ لأنَّ القصور، وعدم المشاركة الوجدانيَّة، والإحساس بالمسؤوليَّة لا يقتصر فقط على النواحي الماديَّة، لكنَّه شامل في جميع جوانب حياتنا.. فأين منَّا التعاطف والتراحم والتآخي والمؤازرة والتكاتف، سواء مع الجيران أو الأصدقاء أو المعارف أو الأرحام، لكن مع الأسف إن وجدت فلابد أن تكون من ورائها منفعة ومصلحة إلا من رحم ربي، حتى بات الإحساس بمعاناة أقرب المقربين إلينا يكاد ينقرض. فأصبح تجاهل من هم في حاجة إلينا سمة بارزة، وصفة العلو والتكبر ميزة يعتز بها كل من يمتلكها.. ونسينا أن دوام الحال من المحال، نعم فالدنيا تدور، والمستكفي بنفسه عن غيره قد يمرُّ عليه ظرف يتمنى من يطرق بابه ليسأل عنه، والقوي بجاهه وماله ومكانه قد يأتي عليه يوم ويصبح هو الطالب، وصاحب الحاجة لحظتها سيتأكد أنَّ الله يمهل ولا يهمل، وسيعرف مرارة ابتعاد الأحباب وقلة الأصحاب وذل السؤال. لو نعلم أنَّ كل صاحب معروف قل أو كثر، فلن يضيع عند الله، لما تأخرنا لحظة عن فعله ولبحثنا وجاهدنا بأنفسنا لنفعله وننال ثوابه. فقد جاء ذكر المعروف في أكثر من ثلاثين موضعاً في القرآن الكريم، وفي مختلف المقاصد فلا نستصغر أي أمر يمكننا القيام به لمساعدة غيرنا، فأمر بسيط بالنسبة لنا قد يكون بالغ الأهميَّة لغيرنا، فقد قال عليه أفضل الصلاة والسلام كل معروف صدقة، والدال على الخير كفاعله، والله يحب إغاثه اللهفان. وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: لا يتمُّ المعروف إلا بثلاثٍ، تعجيله، وتصغيره، وستره، فإنَّه إذا عجَّله هنَّأه، وإذا صغّره عظّمه، وإذا ستره تممه.