أنا الزائد على الحاجة البشريّة

سلمى الجابري

لم أكن مهملاً قط، لم أكن معرضًا للخيبات، لتصدي رياح الألم كما أفعل الآن، لم أكن مهزوزًا، ضعيفًا أمام الوحدة إلا الآن. إنني متسخ، تملؤني الندوب، إنني مهمش كمنديلٍ ملقى على الأرصفة، بين زوايا المنازل، في الحدائق العامة، بين الأزقة المنسية، أنا المنديل الذي قد يشوّه جمال أي شيء كامل، أنا الزائد على الحاجة البشرية، لكن على الرغم من ذلك يتم إعادة تدويري في كل مرّة، دون رغبة في الخلاص مني.

نحن لا نصل إلى مرحلة الخلاص بإرادتنا، بل لا بدّ أن يوافق على نهايتنا بائع السكاكر، العابر الذي لا يعلم أين وجهته القادمة، المرأة التي لا تملّ من الجلوس أمام منزلها، وهي تندب حظها وحظ نساء حيّها، والرجل الذي يتعكز مرارة فقره وحاجته للدواء، لا بدّ أن يرضى علينا كل من كشطنا جراحهم سابقًا، لا بدّ أن يتعرف إلينا أول حبيب، وآخر صديق كي يتم تخليصنا من كل هذا التعب، من دون أن نذرف المزيد من الدموع التي لا منديل لها سوى أطراف ذواتنا البائسة.

في الحقيقة نحن لا نملّ من تمثيل دور الضحيّة، من إثارة شفقة الجميع بما فيهم نحن، لذا نبحث باستمرار عن طبطبة، عن ذراع تأخذ رأسنا بفترةِ نقاهة، بعيدًا عن كلّ حروب العالمين، وكأن كل معارك الدنيا تدار بداخلنا، تبدأ بمناوشاتها، بتهديداتها، بغضبها، بثوراتها، باندفاعها، بدفاعها، بقوتها، بنضالها، بجحيمها، ثم تنتهي أخيرًا باستسلامها، وكأنها لم تبدأ، وكأن هذا التعب قد توقف مخاضه فجأة، في لحظةِ عناقٍ واحدة.

أنا هنا لم أكن أمجد سوى البقايا التي لم تعد صالحة للتعاطي معها، فهي قد أدت واجبها على أقل تقدير أمام الجميع بلا استثناء، فقد تم تحريضها بما فيه الكفاية، تم احتراقها، اختراقها، وأد مشاعرها، التخلي عنها وكأنها لا شيء، أما آن الأوان لقلب صفحتها ونسيانها؟.