صديق المسافات الطويلة

سلمى الجابري

- أنت لست وحدك، كلنا معك، نشبهك، ونتألم مثلك.
هو لا ينام، يظلّ مستقيظًا، يتعالج، يبتلع الكثير من المهدئات، من الحبوب المخدرة، تلك التي تدخل أي كائنٍ طبيعي في سباتٍ عميق، لكنها لم تنجح معه، ليس لأنه إنسانٌ فوق العادة، أو يملك قوة خارقة في الصمود؛ بل لأنه كائنٌ متعب، مهدود، منهك، هش، مستعدٌ دومًا للبكاء، للهربِ نحو النهار دون أن تتلقفه يد الليل.. لا يخمد حرائقه أي شيء.
هو صديق الروح المرتجفة، الصوت الخافت، المزاج القلق، صديق الأمكنة التي لا تحفظ الوجوه، صديق اللحظة التي تركض خلف صهوة النسيان دون ملل.
هو ليس حزينًا أبدًا، لم يقل عن نفسه ذلك قط؛ فهو يتوسد خيبته كل مساء دون أن يشتكي.. لا صوت يملكه للشكوى.
صديقي يكتفي بالصمت، يقول لي دومًا، إنه يخلق نفسه في كل مرةٍ يسكتُ فيها أمام تداعي شعوره، وكأنه يتجدد مع وخزةِ ألمه البكر.
هذا الصديق ليس مملًا أبدًا، يجيد الضحك، يبكي من شدته أحيانًا، وتارة أخرى يكتفي بالابتسام، يصافح البهجة قدر المستطاع، وحين تنسدل الستائر يذهب نحو عتمته وحيدًا، ليس معه سوى بقايا الكلام التي لم يستطع قولها، تعودنا أنا وهو ألا نطرح المزيد من الاستفهامات، نكتفي بما نفصح عنه، ولا نسأل عن التفاصيل الشائكة، تلك التي تكون معظمها جارحة.
ثمة صداقات لا تقبل المزايدة، تحتضنها مثل ما هي، بعيوبها، بنقصها، بعطبها، تأخذها على محملٍ جاد بعيدًا عن كل ما يؤذيها، هذه الصداقة لا تمرض، لا تموت، تبقى طويلاً من أجلِ الإنسانية، لا من أجلِ المصالح.
لذا اختر صديقك جيدًا، اختره كما تختار الكتب لنفسك، كما تختار لوحاتك، أغنياتك، أفلامك، الأماكن التي تحب المُكث فيها طويلًا دون صوتٍ يزعجك، اختره كي تبقى متقدًا، دافئًا، منتظرًا للأحاديث المقتضبة، للأوقات الحالمة، للقاءات الملهمة، اختره من أجل نفسك فقط.