لحظات لا تنسى

نجاة غفران

 

لم أرها منذ سنوات، مشاغل الحياة وتنقلاتي الكثيرة بين عدة جامعات داخل وخارج الوطن، قطعت صلتي بالكثير من معارفي.
العمة غيتا واحدة من هؤلاء، أخبرتني أمي في اتصال هاتفي مقتضب، بأنها على فراش الموت، وبأنها عازمة على زيارتها، ولم أنتظر سؤالها لأعلمها بأنني أرغب في مرافقتها، كنت حينها في إحدى مدن الشمال، جمعت حقيبتي وطرت إلى المدينة الشاطئية التي تعيش فيها أمي، ووجدتها بانتظاري، هي وعمتي منى، فوجئت كثيرًا عندما علمت بأن هذه الأخيرة سترافقنا إلى الساحل الصحراوي؛ حيث ترقد العمة غيتا في إحدى مستشفياته، الاثنتان متخاصمتان منذ ما يقرب من خمسة وعشرين سنة، والعمة منى تريد الآن رؤية عدوتها اللدودة بعد كل هذا العمر.
لم أعلق على الأمر، وانطلقنا نحن الثلاثة نحو أقصى الجنوب.
أستغرب دائمًا كيف مرت كل هذه السنوات بسرعة، بالأمس القريب فقط كنت أدرس بالجامعة، وكانت العمة غيتا تشرف على بحث إجازتي، أتذكر جيدًا كيف تعارفنا، تأخرت في تقديم طلب الانضمام لمجموعات البحث الخاصة بالسنة النهائية في الجامعة، ولم يقبل أي من الأساتذة الذين توجهت إليهم، بأن يضمني لمجموعته، وبت مهددًا بأن أضيع سنتي الدراسية لهذا السبب، وكانت أيامها العمة غيتا تقدم لنا دروسًا عامة في الإبداع الأدبي، وكانت أن كلفتنا بعمل نقدي يتطلب الكثير من الدراسة والتفرغ، ولم يكن لديّ وقت لذلك بسبب مشكلتي مع بحثي الذي لم أجد من يشرف عليه، توجهت نحو مكتبها وعرضت عليها أن أقدم بدل العمل نصًا قصصيًا طويلاً من تأليفي، كنت حينها أنشر من حين لآخر خواطر وقصصًا وأشعارًا في الجرائد المحلية، هزت ذقنها بشيء من التعالي ورمقتني بنظرة ساخرة لازلت أذكرها وقالت: "نص من إبداعك؟ لن يكون العمل سهلاً، وسيكون من الصعب إقناعي به، ولكنك تستطيع المحاولة.. ولم لا؟ ليس ثمة أحد أفضل من أحد في مجال المحاولة، أبدع، أبدع.. وسنرى..".
ليلة اليوم التالي، وكنت قد قدمت لها النص في أولى ساعات عملها في الصباح، رن هاتف المنزل بإلحاح، وطرقت والدتي باب غرفتي وأخبرتني بامتعاض بأن امرأة ما تريد محادثتي، وبأن ذلك لا يجوز، وعليّ أن أفكر في سمعة البيت وأشياء أخرى كثيرة لا أذكرها الآن.
تناولت سماعة الهاتف وأنا نصف نائم، وأتاني صوت العمة غيتا المتحمس: "غير معقول، لم يعد لدي ما ألقنك إياه، اسمع يا فتى.. علمت بأنك لم تنضم إلى أية مجموعة حتى الآن، أنا سأشرف على بحثك، وسيكون عملاً إبداعيًا، أنت قنبلة مشاعر يا ولدي، ومن الآن أنا المشرفة على مستقبلك الأدبي، أنا عمتك..".
من يومها وهي عمتي فعلاً.
رحبت بها العائلة، وكان لنصائحها ووقوفها جنبي وتدخلها لصالحي في كثير من منعطفات مسيرتي الأدبية، فضل كبير عليّ، ولا أبالغ إن قلت إنها هي من مكنتني من وظيفتي الجامعية التي ما كنت لأتمكن من ممارسة مهنة الكتابة بحرية ودون ضغوط، لو لم أحصل عليها.
أحببناها جميعًا، وتعلقنا بها، بمن في ذلك خطيب عمتي منى، أخت والدي.
حدث ذلك دون تخطيط، انبهر المحامي الشاب بالأستاذة الجامعية الجميلة، التي كانت تبدو وهي في أواسط الثلاثينات كعارضة أزياء أوروبية، بشعرها الأشقر الطويل، وقامتها الممشوقة، وعينيها العسليتين الضاحكتين، ووجهها المشرق المغطى بحبات نمش لطيفة، تضفي على مظهرها الشاب رونقًا خاصًا. بدأ يبتعد عن العمة منى، ثم قام بفسخ الخطبة وتقدم رسميا للأستاذة غيتا التي رفضته طبعًا، لكن ذلك لم يشفع لها لدى العمة منى، التي تشاجرت معها واتهمتها بأمور خطيرة، وبذلت ما في وسعها لإبعادها عن العائلة دون جدوى. 
لم تتزوج أي منهما، ولم تتصالحا أبدًا.
وجدنا العمة غيتا هزيلة وضعيفة على سرير المرض، وقال لنا الطبيب إن حالتها سيئة جدًا.
حضنتنا أنا وأمي وبكت طويلاً، ثم فتحت ذراعيها للعمة منى التي أجهشت بدورها بالبكاء وارتمت على صدرها وهي تقول: "اسمعي يا أستاذة، إذا مت فأنا أسامحك على كل ما سببته لي من أذى، وإن بقيت على قيد الحياة؛ فلا تحلمي بذلك، ستظل الأمور بيننا كما كانت ولن أغفر لك أبدًا جمالك اللعين الذي خطف مني خطيبي..".
انفجرت الاثنتان بالضحك وعانقتا بعضهما وبكتا أيضًا.
وتمنيت لحظتها لو استطعت أن أخطف هذه المشاعر الفياضة وأترجمها كلامًا رقيقًا على الورق.