شيء من القسوة

نجاة غفران

 

كثيرًا ما تجد نفسها عاجزة عن فهم الناس، عن التصرف بحزم وواقعية كما يقول والدها، عن اتخاذ قرارات جذرية وتحمل نتائجها، تعتبر نفسها شخصًا وديعًا، لا ترغب في إيذاء أحد، ولو نالها من هذا "الأحد" الكثير من الظلم والتعنيف.
لم تستطع أن تواجهه، لم تفلح في ترويض نفسها على الصلابة وقوة المواجهة.
والدها يردد بندم: "تهاونت في تربيتك، كان عليّ أن أعلمك شيئًا من القسوة.."،
غادرت القاعة بصمت أول ما اطمأنت إلى أن الحاضرين مشغولون بتتبع الندوة، انسحبت كما تفعل دائمًا، بصمت وهدوء، واجتازت البهو الواسع وهي تختلس النظر بتوجس لموظفي الاستقبال، الذين كانوا منشغلين بتناول أكل أتوا به على ما يبدو من البوفيه الضخم في القاعة المجاورة.
سمعت بعض الحضور يتحدثون عنه أثناء دخولهم إلى قاعة الندوة، "بوفيه باذخ صرفت عليه وزارة الشغل ميزانية محترمة..".
اتصلت بها إحدى سكرتيرات الوكالة الوطنية لإنعاش التشغيل منذ أيام، وألحت عليها لتحضر ندوة هامة عن مفاتيح الراحة النفسية في الوسط المهني". ستستفيدين كثيرًا يا ابنتي، وقد تساعدك نصائح الخبير على استعادة ثقتك بنفسك، وشحذ طاقتك لشغل الوظيفة التي ستحصلين عليها، بكفاءة وتمكن..
تلك السكرتيرة كانت ممتنة لها؛ لأنها أعطتها رقم والدها الذي يعمل في المطار، لدى ابنتها القادمة من الخارج مشكلة مع حقائبها، ووالدها وعد بحل المشكلة سريعًا، والسكرتيرة رغبت أن تعبر لها عن شكرها عبر دعوتها تلك..
لم يكن ذهابها إلى وكالة التشغيل يسيرًا، ترددت أسابيع بعد طردها من العمل قبل أن ترضخ لإلحاح والدها، وتقدم ملفها إلى الوكالة.
لم تكن ترغب أبدًا في إعادة التجربة، سنتان من العبودية والتعذيب النفسي الممنهج، دمرتا أعصابها تمامًا، وكرّهتاها في العمل وفي الاحتكاك بأشخاص لا يجمعها شيء بهم، لازالت تتذكر كلماته أول ما طرقت باب مكتبه: "أنت حقًا صاحبة هذا الملف؟ لا أفهم لماذا تجاهلوا إرفاق صورتك به، ماذا سأفعل بك؟ سينفر الزبائن من الشركة، لا.. لست مستعدًا للمخاطرة بمستقبل الشغل، انتظري خارجًا، سأكلم الإدارة..".
لم يستطع أن يتخلص منها، مسئولو الإدارة أصروا على تعيينها مكان السكرتيرة التي انتقلت إلى العاصمة.
"اسمعي.."، قال لها بحنق: "عليك العمل على تغيير شكلك بالكامل، تخلصي من كيلواتك الزائدة، واشتغلي على وجهك وشعرك، يجب أن تفعلي شيئًا، اشتري أيضًا ملابس لائقة، أريد ألوانًا وتفاصيل راقية تجذب الزبائن..".
بدأت معاناتها معه من اليوم الأول، لم يبخل عليها بالنقد الهدام، بمناسبة وغير مناسبة، بدانتها مقرفة، سمعها ثقيل، هندامها مضحك، طريقة تواصلها مع العملاء بدائية، وصوتها الخفيض مؤذٍ ومنرفز، لا فرق عنده بين ما يدخل في خصوصياتها وما يعني كفاءتها المهنية، يشخط فيها أمام الزبناء، يطالبها بأمور تفوق طاقتها، ويحملها مسئولية أخطاء تقع ضمن اختصاصاته، نجح في إشاعة جو من الرعب والتهديد، حوّل حياتها إلى جحيم، صارت تتوقع تقلبات مزاجه، وتخشاها، وتغادر مكتبها باكية، منهارة، عاجزة عن التواصل بشكل طبيعي مع أهلها والمحيطين بها، انتهى بها الأمر إلى أن صارت ترى في استقالتها خلاصًا تنشده، وتخاف منه؛ لأنها بكل بساطة لا تستطيع حتى تقديم ورقة استقالتها له.
أجبرها انهيار أعصابها بشكل تام، على الإقدام على تلك الخطوة، وحبس نفسها في البيت.
لم تكشف لها سكرتيرة وكالة التشغيل هوية ضيف الندوة.
حين رأته، شعرت بالأرض تميد بها. 
رئيسها السادي جاء يعطي دروسًا في الراحة النفسية في الوسط المهني.
لا شك أنها مزحة ثقيلة.
وقفت تنتظر سيارة أجرة وهي تتأمل طفلاً يرمي فتات خبز لسرب من الحمام تجمع في موقف الباص، نادت امرأة الطفل وسحبته من يده عند اقتراب الحافلة، وطارت الحمامات مبتعدة، وبقيت واحدة منها تأخرت وهي تلتقط الفتات، واقتربت الحافلة أكثر ودهست الحمامة وتطايرت دماؤها تحت العجلات، و.. انفجر الولد بالضحك، ودست أمه يدها في شعره مداعبة، وهي تبتسم أيضًا،
حملقت الشابة فيهما غير مصدقة. 
أي عالم هذا؟ أي كابوس؟
أهكذا يربون أبناءهم على صلابة الأعصاب؟
تملكها شعور بالغثيان، وغادرت المكان وهي ترتجف.