السُترة

نجاة غفران

 

أرسل رئيس الورشة في طلبه في منتصف الصبيحة، أمره أن يترك ما في يده وينتقل إلى مقر شركة الأدوية في الضاحية، أحد الموظفين اتصل بالمكتب ليطلب إرسال عامل لإصلاح آلة صنع القهوة في الإدارة. 
قال للرئيس، إنه لم ينته بعد من الطلبية التي في يده، ولكن الأخير لوح غير مكترث بيده في الهواء وأمره: "دع كل ذلك.. هناك اجتماع هام في إدارة الشركة، والمسئولون بحاجة للقهوة.. انهم أهم زبائننا، أسرع بإصلاح الآلة..".
عاد إلى ركنه ونظر بتجهم إلى مجموعة روبوتات المطبخ التي لم يكمل تجميعها، لن تُسر مسئولة فندق الساحل، بعثت الآلات إلى الورشة نهاية الأسبوع الماضي، وألحت على إصلاحها في أسرع وقت، هي أيضًا زبونة، وليس في صالح الورشة أن تخسرها.
"دعني أتكفل بالأمر.." اقترح زميله الشاب وهو يراقبه من خلف منضدته المثقلة بأجزاء فرن كهربائي قديم.
"لا، شكرًا.. لو كان بإمكانك الذهاب مكاني إلى الضاحية.."، رد وهو يعرف أن الأمر لن يروق للرئيس، الرجل يكره مناقشة أوامره، وزميله حديث العهد بالورشة، يلزمه بعض الوقت لإثبات جدارته، وهو لا يلوم الرئيس في ذلك.
هو نفسه لا يجرؤ على ترك روبوتات الفندق بين يديه.
دلف إلى دورة المياه القذرة، ونزع بلوزة عمله الزرقاء وغسل يديه ووجهه، وخلل شعره بالماء ثم مشطه بأصابعه، ونظر إلى نفسه في المرآة التي تقشرت جوانبها من الصدأ.. لا بأس، لا تبدو عليه علامات الإعياء.
لم يرتح لحظة طيلة نهاية الأسبوع، تنقل بحقيبة عدته في أماكن متفرقة من المدينة، أصلح حمام أحد المعارف، وأعاد تشغيل جهاز تدفئة صديق آخر، وركب صحن التقاط تليفزيوني جديد لوالده، وألقى نظرة على أجهزة البيت ليرضي والدته، التي تخشى دائمًا أن ينفجر أحدها في وجهها، وفحص محرك سيارة أخيه الجديدة التي استلمها من مكتب المحاسبة الذي يعمل فيه..
لم يرتح، ولم يشعر بأنه قضى إجازة مستحقة كما يفعل غيره.
ولم تقف الأمور عند هذا الحد؛ فقد فاجأه والداه ليلة الأحد التي كان يطمع في أن يسترخي فيها أمام ماتش كرة في التليفزيون، بحفلة عيد ميلاد دعوَا إليها إخوته وأصحابه ومعارفه وجيرانه، امتلأت الدار بالناس، وعم الهرج والضحك، وأوقدت الشموع، ووزعت الهدايا، وشعر بالسخف وهو يبتسم بإعياء ويتظاهر بمرح لم يكن يحس به على الإطلاق.
وها هي النتيجة.
مرر كفه على وجهه المتعب، وارتدى السترة السوداء التي أهداها له أخوه، ووضع نظارات داكنة على عينيه ليخفي هالات سهره، وتناول حقيبة العدة وخرج غير مكترث بصفير زميله المتهكم على أناقته غير العادية.
ترجل من التاكسي أمام مقر الشركة، كان هناك خلق كثير يسدون تمامًا كل منافذ الشارع.
لم يكن ينقص إلا هذا الزحام.
اقترب بقلق، ورأى الناس يحملون لافتات ويصرخون مطالبين باستقالة الإدارة، وبإرجاع حقوقهم إليهم.
فهم أنها مظاهرة، وشق طريقه بين الجموع بامتعاض وهو يحني رأسه ليتفادى اللعاب المنتثر من الحناجر الصارخة.
أحدهم صاح خلفه، وتبعه آخر، ثم آخرون.. وهجم الجمع عليه فجأة، ووجد نفسه مطوقًا بأشخاص يشتمونه ويطالبونه بالعودة من حيث أتى، ويتهمونه بتدمير حياة الناس، والتسبب في خراب بيوتهم..
لم يفهم شيئًا.
طارت نظارته في الهواء، ونزعت حقيبة عدته، وانهال بعضهم بالضرب عليه، وصرخ بفزع، وبحت حنجرته والناس يشدونه من ملابسه، ويسبونه، ويشتمون رؤساءه..
لا يدري كيف تخلص منهم واحتمى لاهثًا ببهو المبنى؛ حيث طوقه الأمن، ووجد نفسه متهمًا بالتهجم على الشركة.
لم يفهم ما يجري إلا بعد أن خارت قواه تمامًا.
نال ما ناله بسبب هدية أخيه، السترة اللعينة التي تحمل اسم مكتب المحاسبة الذي يعمل فيه.
ظن العمال أنه مبعوث المكتب المسئول عن تسريحهم، واستقبلوه بالحفاوة التي يستحقها..