شمال جنوب

نجاة غفران


لم يمض وقت طويل على استقرارنا في مراكش، أنا ووالدي. لم أستطع أن أرفض عرض الشركة الأخير... إذ لم يعد جو مدريد يناسب صحة والدي، وعرض المغرب مغر للغاية.
لاقينا الكثير من المشاكل أثناء رحيلنا. ابتعادنا عن البلد التي عشنا فيها كل هذا العمر كان صعباً. صحيح أن زياراتنا إلى المغرب لم تنقطع أبداً، ولكن فكرة الرحيل النهائي وبدء حياة جديدة في مكان بعيد عن مدريد كان أمراً غير هين. قمت برحلات مكوكية إلى مراكش لأستطلع ظروف عملي الجديد وأجهز سكننا. جو المدينة الدافئ حمسني للاستمرار في مشروع انتقالنا. مشاكل أبي المعقدة مع ضيق التنفس ونزلات البرد المتلاحقة قد تخف في ظل دفء شمس المدينة وصفاء هوائها النقي.
نعيش وحدنا منذ سنوات. والدتي ماتت، ولم يبق لوالدي غيري وبعض من أقربائها، وكلهم إسبان. وزواجي لم يستمر طويلاً، ولم يسفر عن أطفال.
استأجرت فيلا في حي راق، وقمت بنقل كل أغراضنا إليها. كانت أمي من عائلة عريقة في مدريد. حتى الآن لا أفهم كيف وافقت على الارتباط بشاب مهاجر لم يكن يملك غير راتبه المتواضع.
ربما هو الحب الذي يتغنى الجميع به... والذي لم أعرفه يوماً.
أبي لحد الساعة يذرف الدموع كلما أتى على ذكرها، ويشهد لها بالكثير من المناقب.
أصر على الاحتفاظ بعد وفاتها بكل ما ورثته من أغراض عن عائلتها. وهي كثيرة. قطع أثاث يعود بعضها للقرن التاسع عشر، حقائب ملأى بثياب خيط بعضها قبل الحرب العالمية الأولى، كتب ومذكرات ورسائل وسجلات مطبخ دونت بمداد قديم، قبعات وتماثيل وتحف من كل الأحجام وآنية مطبخ وألبومات صور ولوحات وساعات حائطية وأغراض أخرى من كل الأشكال والأحجام. عائلة والدتي تعودت على الاحتفاظ بكل شيء، ووالدي ألح علي لأن لا أضيع غرضاً مما سأرثه عنه بعد عمر طويل ان شاء الله.
نقل كل هذه الأشياء من مدريد إلى مراكش كلفني الكثير من الجهد والمال وصداع الرأس أيضاً. فلم يكن من السهل على إخراج تحف والدتي من إسبانيا دون إجراءات إدارية صارمة.
لم يكد فصل الصيف يحل حتى بدأ والدي يلح علي لنسافر إلى مدريد لقضاء الإجازة السنوية هناك، بين أحبابنا. كانت حالته الصحية قد تحسنت كثيراً. لم أمانع في تلبية طلبه، فأنا أيضاً اشتقت لأصحابي ومعارفي هناك.
رتبنا أمر السفر واتفقنا على أن ننتقل بالسيارة إلى طنجة، ومنها بالطائرة إلى مدريد. أراد والدي أن يستمتع بالرحلة ويشتري بعض الهدايا من القرى التي سنمر بها.
رتبت أغراض سفرنا في صندوق السيارة الخلفي فيما وقف والدي قربي يحدث حارس الفيلا وفي يده حقيبة وثائقنا. كان يوصيه بأن يفتح عينيه جيداً؛ لئلا يسطو أحد على بيتنا.
استعجلته لننطلق باكراً، وسلكنا طريق الأرياف ونحن نستمع لأهازيج شعبية مرحة.
استمتعنا بالرحلة أيما استمتاع، واشترى والدي تحفاً من القصب وأواني خزفية ومشغولات جلدية... ووصلنا مشارف طنجة وطلبت منه أن يجهز جوازي سفرنا وبقية أوراقنا الثبوتية... وهنا كانت الكارثة.
لا أثر لحقيبة الوثائق.
أعلن والدي أنه نسيها في مدخل البيت. وقال بأن علينا أن نعود أدراجنا لنأخذها.
بلعت الصدمة واتصلت بالمطار أطلب تغيير توقيت رحلتنا... وقفلنا راجعين بالسيارة.
أزيد من خمسمائة كيلومتر.
كان الظلام دامساً عندما أوقفت السيارة أمام الفيلا. قلت لوالدي بأنني بحاجة ماسة للنوم، وترجلت بتعب، لكنه همس لي بنبرة فزعة: «هناك لص في البيت. يجب أن نتصل بالشرطة». 
تنهدت والتفتت حيث أشار. كان هناك فعلاً خيال شخص يحمل مصباحاً ويتحرك حول المنزل.
فتحت بحذر صندوق السيارة الخلفي لأتسلح بعصا البيزبول التي لا تفارقني، ولمحت فوراً في ضوء الصندوق الخافت حقيبة وثائقنا.
فتحتها بذهول. 
هي حقيبتنا حقاً. وبها الجوازان وباقي أوراقنا الثبوتية. والدي لم ينسها في البيت... بل في صندوق السيارة.
تملكني حنق شديد، وتناولت العصا وجريت بها غير عابئ بصياح أبي الخافت خلفي.
هويت بعصاي على الشخص الذي كان يدور حول البيت وطرحته أرضاً، وارتميت عليه.
صاح طالباً النجدة... واكتشفت بأنه حارس الشارع.
كان يقوم بالدورية التي أوصيناه بها.
شعرت برأسي يدور، وانقلبت على ظهري ولم أعرف إن كان علي أن أضحك أو أبكي، ووالدي يتفقدني بذعر، والحارس المرمي قربي يتفحص الدم السائل من رأسه، ويئن بألم.