قلوب باردة

نجاة غفران

 

لم تتخيل يوماً أن تطأ قدماها بلداً كهذا. كأنها سافرت عبر الزمن، وانتقلت عشرات السنين إلى الأمام، إلى مستقبل لم تره سوى في أفلام الخيال العلمي.
طوكيو، مدينة العجائب التي لم تسعفها الأشهر الست التي قضتها فيها لتسبر كل أغوارها. عالم عجيب من الحداثة والتقنيات العالية وجمال المعمار وجودة الحياة العصرية. قطارات توصلك أين شئت في وقت قياسي. مواعيدها منتظمة بالثانية. بنايات شاهقة لا تتعطل مصاعدها، ولا يتآكل طلاؤها، ولا تنقطع الكهرباء أو المياه عنها. شوارع نظيفة ممتدة حتى الأفق. مراكز تجارية تعج بالسلع والماركات العالمية. مقاهٍ ومطاعم لكل الأذواق. متاحف ودور ترفيه وحدائق وغابات وكل ما يمكن أن يخطر على البال للشعور بالبهجة والرضا والاستمتاع والأمان. خصوصاً الأمان. رأت أشخاصاً يتركون حقائبهم على مقاعدهم في القطار، ولا يفقدونها. تفاصيل حياتية كثيرة ومدهشة...
لا تصدق بأنها تعيش هذا الحلم. لا تصدق بأنها تشارك فيه.
جاءت ضمن بعثة جامعية خاصة لاستكمال أبحاثها هنا. رحلتها طويلة مع الدراسة. من كان يتوقع أن يتاح لها كل هذا...؟
بزغت موهبتها مبكراً، في مدرستها القروية المتواضعة في جبال الأطلس. غرفتان طينيتان مسقوفتان بأعواد الشجر. قام معلمها بجهد خرافي ليقنع والدها بالسماح لها بمتابعة دراستها في مدرسة داخلية في المدينة. قيل لها حينها بأنها لو كانت تدرس في بلد متقدم لسمح لها بالانتقال إلى مستويات أعلى تناسب نبوغها المبكر. بعد الثانوية كان من الممكن أن تلج إحدى مدارس النخبة وتعين في وظيفة مرموقة، لكنها لم تجد الدعم المطلوب، وانتقلت للجامعة مثلها مثل الآلاف من أولاد البسطاء. راسلت بعد حصولها على الليسانس بعض مؤسسات الأبحاث الأجنبية، وفوجئت بجامعة بريطانية مرموقة ترسل في طلبها. ولم تصدق. هيأ لها مسؤولوها ما لم تكن تحلم به، وطالبوها بشيء واحد فقط، أن تواصل أبحاثها الدقيقة في الروبوتيك. سنتان بعد ذلك، أرسلت مع فريق الجامعة إلى طوكيو، ضمن إعارة تستمر لمدة عام.
من حين لآخر تستقل قطارات المدينة لتجوب أركانها بفضول. الناس هنا تعودوا على رؤية الغرباء. السياح كثر، والمقيمون الأجانب أيضاً. ثمة مناطق هادئة يقطنها سكان طاعنون في السن، تعج بالمناظر الطبيعية الخلابة وتملؤها المنازل التقليدية الصغيرة الشبيهة كثيراً بتلك التي تملأ قصص الأطفال. بنايات قرميدية صغيرة تحيط بها حدائق لطيفة. وثمة شوارع بالغة الرقي والفخامة، لا تهدأ بالليل ولا بالنهار، تحتل واجهات عماراتها الشاهقة شاشات ضخمة لا تتوقف عن بث الإعلانات الصاخبة. قادها تجوالها بين شرايين المدينة إلى أماكن لم تكن تتخيل وجودها. مقاهي القطط مثلاً... لم تكن تعرف أن الناس هنا يفتقدون دفء العلاقات العائلية لهذا الحد...
لحد البحث عن هذا الدفء لدى الحيوانات...
ذعرت عندما انتبهت إلى خواء العلاقات الإنسانية في جحيم المدنية. الناس يعيشون في عزلة اجتماعية تفوق عزلة الغربيين. يعملون كثيراً، يلهون قدر المستطاع ليلاً، لكنهم لا يعيشون علاقات اجتماعية وثيقة كتلك التي تركتها في بلدها... وبالتحديد في قريتها الجبلية الفقيرة، حيث يزور الناس بعضهم بعضاً بشكل يومي، ويتحدثون، ويتبادلون الأخبار، ويتعاونون على لقمة العيش وعلى كل شيء.
شعرت بحنين جارف إلى قريتها أيام قادها سوء الطالع إلى ركوب القطار في وقت الذروة مرات متكررة. وحدث بعض هذه المرات أن توقف الخط بسبب حادث انتحار على السكة الحديدية. وحوادث الانتحار في طوكيو كثيرة. سمعت حينها الركاب المتذمرين يرددون نفس الملاحظة غير اللائقة التي لم تجد صعوبة في فهمها رغم قصر عهدها باللغة اليابانية: «تباً...سنتأخر ثانية. كان بإمكان هذا المعتوه أن يرمي نفسه تحت سكة قطار آخر...».
وحشية فتحت عينيها على حقيقة مظاهر التقدم المقنع الذي لم يفلح في إخماد نزعات الأنانية والهمجية لدى بعض الناس.
ستة أشهر أخرى، وتعود إلى بريطانيا.
ستة أشهر...
وفي أول فرصة... تأخذ إجازتها وتطير إلى قريتها الجبلية البعيدة حيث لا ناطحات سحاب ولا قطارات مغناطيسية ولا روبوتات ولا مقاهي قطط... لكن حيث طوفان من الحب والدفء والتآخي والتراحم بين الناس.