المقعد الخلفي

نجاة غفران

 

منذ سبع سنوات وأنا أشغل نفس المكان في حافلة الشركة، المقعد الأخير، بمحاذاة النافذة، غيرت الحافلة مرتين، مرة بسبب حادثة كادت تودي بحياة السائق والركاب الجالسين خلفه، ومرة أخرى بسبب عطل في المحرك، تعذر اصلاحه وتم استبدال الحافلة بأخرى جديدة، وفي كلتا الحالتين، وجدت مكاني شاغراً، المقعد الأخير الذي يواجه الباب الخلفي للحافلة، والذي يتوفر على مكانين للجلوس.
لا أحد يرغب في الاقتراب مني، الجهة الثانية من مقعدي المزدوج فارغة على الدوام، زملائي يسلمون علي من بعيد عندما تحرجهم نظراتي، وفي أغلب الأحيان يشيحون بوجوههم ويتفادون النظر إليّ، أتفهم ذلك، ولا يهمني، لم تعد هذه الأمور تهمني، تعلمت كيف أتقبل وضعي وأتعايش معه.
ابتليت في بداية مراهقتي بمرض جلدي لم ينفع معه دواء، جسدي مغطى ببثور حمراء تترك خلفها عندما تجف، ندوباً داكنة عميقة، جربت كل ما يمكن أن يخطر على البال من علاجات طبية وطبيعية وخرافية أيضاً، أخجل من نفسي الآن عندما أتذكر بعضها، لم أشف ولم تختف بثوري، سلمت أمري لله وتقبلت نصيبي.. ولكن نظرات الناس المشمئزة لم ترحمني.
أعمل في أرشيف الشركة، لا أحد يشاركني مكتبي، والإدارة تبدو راضية عن عملي، ويحرص العاملون فيها كما باقي الزملاء، على تفادي الاقتراب مني. 
مكتبي هناك، ومقعدي هنا، في الحافلة، يؤمنان لي عزلة أرتاح لها، لغط الآخرين وضجيجهم، شفقتهم ونفورهم، أسئلتهم الصامتة وإجاباتهم الصادمة تقلب أوجاعي وتزيد من توتري، أفضل أن أنكفئ على نفسي في فقاعة دافئة تؤمن طمأنينة لا أجدها في العالم الخارجي.
لكن حتى هذا.. لم يتركوه لي، فوجئت بهم يقودونه نحوي.. ويرتبون له جلسته على المقعد المجاور لي، هو.. الوافد الجديد، صوت الشركة والناطق باسمها في الهاتف، رجل في أوائل الأربعينات، بجسم ممتلئ، وهندام رسمي ظريف، وشعر ناعم مثبت بمرهم لامع، نصف وجهه مختف خلف نظارات سوداء عريضة.
لم أحتج لرؤية عصاه التي لم يكن بحاجة إليها، وأيدي الزملاء الكرام تقوده نحوي: «هذه الآنسة سمر، سترتاح كثيراً قربها، لا يوجد ألطف منها في الشركة..».
كلمات رافقها غمز ولمز أثار حفيظتي، حياني الرجل، وعرفني بنفسه، إنه المسئول الجديد عن مكالمات الشركة وميكرفونها الداخلي، صوته عذب، دافئ، ونقي، به بهجة داخلية، ولطف ورقة إحساس، ودعوة ودودة للكلام بلا رسميات.
اندهشت لردة فعلي، لا أعرف الرجل، لكنني فرحة لجلوسه قربي، راغبة في التحدث معه، مستمتعة بسماع انطباعاته عن المكان، والناس، والأشياء التي لا يراها ولكنه يشعر بها، ويتخيلها.
بدأت حكايتنا هنا، مزاح زملائنا السمج فتح لنا آفاقاً لم نحلم بها، العانس الدميم عثرت على فارس أحلامها، والأعمى الثخين وجد فتاته المنشودة، وقعنا في حب بعض، وصارت مشاويرنا اليومية على متن الحافلة مواعيد غرامية لا نشعر فيها بالوقت ولا بالناس ولا بالعالم، متعة لا تضاهيها متعة، يحكي لي فيها بصوته العذب الذي لا أملّ سماعه، كيف عاش وكبر واشتغل وبنى نفسه دون أن يعرف كيف هو لون السماء وشكل الشجر وهيئة البشر وملامح الأقربين من الأهل والمعارف، وأفتح قلبي الجريح له وأشكو له نفور الناس مني وصراعي مع نفسي لأعودها على تجاهل الإهانات، والإعراض عن سماع كلمات الشفقة من الأقرباء والغرباء.
مقعدي في الصف الأخير على اليمين، لم يعد منفًى اختيارياً ألجأ إليه لأعزل نفسي عن العالم، صار منصة مواعيد أسارع خطوي نحوها وأنا أكاد أطير من الفرحة والترقب، سيأتي قبلي.. سأصل قبله.. سيشم عطري.. سأسمع صوت عصاه.. سيتكلم أولاً.. سأمسك يده قبل ذلك.
صرنا مراهقين.. مجنونين.. حالمين..
رجل وامرأة يرتبان أمور زواجهما المرتقب على مقعد خلفي يسار الحافلة التي تقلهما إلى مكان عملهما.. والعالم يرقص حولهما.