الغناء على وتر الحنين

نجاة غفران


وأنا واقف أنتظر القطار في إحدى محطات مدريد الأنيقة، كنت أنظر حولي، وأفكر بأن الزمن يفاجئنا بأمور لا نتوقعها. لم أحلم يومًا بأن أترك بلدي، ولا بأن تتاح لي فرصة بناء مستقبل مشرق في مكان كهذا. الصدفة وحدها جمعتني ذات صبيحة بأحد أصدقاء والدي القدامى. رجل طيب تعرفت عليه أول ما لمحته يجتاز عتبة المكتبة الصغيرة التي كنت أعمل فيها. جاء يطلب بعض الجرائد، وبعد أن حييته وعرّفته بنفسي، دردشنا بعض الوقت، وألححت عليه ليصحبني بعد دوامي ليسلم على الوالد، الذي أصبح مقعدًا، ولم يعد يتقبل مخالطة الكثير من الناس.
فرح أبي كثيرًا للقاء صاحب عمره. العم بشير هاجر إلى إسبانيا منذ زمن، وما عاد يزور بلدتنا إلا نادرًا.
سأل عن أحوالنا، وأخبرته بأنني الوحيد من بين إخوتي الذي لم يكتب له الفوز بوظيفة جيدة. عملي في المكتبة يعفيني من طلب مساعدة أحد، لكن راتبي الهزيل لا يسمح لي بالتفكير في إنشاء عائلة أو بناء مستقبل جيد.
اقترح عليّ أن أصحبه إلى إسبانيا. المدينة التي يعيش فيها بها مكتبات كثيرة، بإمكاني العمل فيها، وإن شئت فهو مستعد لتوظيفي في ورشته التقليدية الصغيرة لتجليد الكتب، سيعلمني المهنة، ويجعل مني وريثه الروحي، فابناه غادرا البيت، واستقلا بحياتهما خارج إسبانيا.
لم أتردد. وحسنًا صنعت. فقد وجدت في الرجل وزوجته من الخير والطيبة ما لم أحلم به أبدًا.
أعمل الآن في ورشته، وأدرس الإسبانية في معهد قريب، ومن حين لآخر أستقل القطار إلى مدريد، التي لا تبعد كثيرًا عن «إسكوريال»، حيث أعيش، لأتجول في المدينة وأستكشف معالمها.
هذا المساء، كنت هناك لأحضر عرضًا مسرحيًا لفرقة تابعة للمعهد الذي أدرس فيه. انتهى العرض في وقت متأخر، وتناولت وجبة سريعة قبل أن أقصد المحطة.
صعدت إلى القطار، وتوجهت نحو آخر صف المقاعد كعادتي، وجلست، ثم دسست سماعتي هاتفي في أذني، وشغلت موسيقى هادئة، وأغلقت عيني، وأنا أفكر في بلدي وأهلي، ووالدي المقعد الذي بكى كثيرًا عند رحيلي، رغم أنه كان أكثر من ألحّ عليَّ لقبول عرض صاحبه.
انتفضت فجأة، وفتحت عيني بقلق، وأنا أشعر بأحدهم يلكزني في صدري... 
شاب طويل عريض ما شاء الله... بشعر أشعث، وعينين خضراوين، يتوسطهما وشم دقيق. انحنى يحدق فيّ باستفزاز وتملكني الرعب. 
رائحة عفنة تنبعث من أسماله المتسخة. كان يرتدي قطعًا متنافرة من الملابس الممزقة. سترة جلدية بدون أكمام، فوق كنزة صوفية تتدلى خيوطها، وتكشف قميصًا غيّرت القذارة ألوانه... وحول العنق يلتف وشاح غليظ به ثقوب وبقع أوساخ، وتحته حلي رخيصة، علقت في سلسلة صدئة ثقيلة.
لا يزال الشاب يحدّق فيّ، وكأنني مخلوق هبط من كوكب آخر.
نظرت إلى يده، التي بدأت تحك ذقنه المغطاة بزغب كثّ قذر. أظافره الطويلة السوداء تنبئ عن عيشته البائسة.
تحوّل خوفي منه إلى شفقة عميقة. هذا واحد من أبناء البلد، يعاني ما يعانيه كثير من المهاجرين.
رفع سبابته المتسخة في وجهي، وكأنه يريد تهديدي، واضطربت، وارتفع صوته فجأة بالغناء، وحبست أنفاسي، وقد شلّت الصدمة جسدي.
أخذ يشدو بأهازيج شعبية مغربية لم أتوقعها منه.
الشاب كان مثلي، مهاجر مغربي رمت به الأقدار في هذه البلاد.
قمت أتحداه بأداء مقاطع حماسية من الأغاني التي اختارها، ورفعت رأسي متصنعًا الخشونة في وجهه، وانطلقنا نبارز بعضنا بعضًا، وكأننا نتأهب للانقضاض على بعضنا... ولم نكترث بما حولنا.
توقف القطار في محطته التالية، وانفتحت الأبواب، ولم نشعر إلا بالشرطة وهي تنقض علينا وتبعدنا بخشونة عن بعض.
حاولنا التخلص من قبضة رجال الأمن القاسية دون جدوى.
فهمنا بعد طول أخذ وردّ معهم بأن بقية الركاب أعلموا الأمن بأن شخصيْن قد يكونا مسلحين يتعاركان بضجة في إحدى عربات القطار، ويهددان سلامتهما وسلامة بقية الركاب...
قضينا ما تبقى من الليل في مخفر الشرطة، نغني، ونضحك، ونذكر البلاد، والأهل، والأصحاب، والعمر الذي يمضي في الغربة... ونبكي.