مطر

نجاة غفران


صباحات أعياد الميلاد فظيعة. لا أكاد أحس بقدميَّ وأنا أجرهما بصعوبة باتجاه موقف الحافلة. حالتي لا تسمح لي بقيادة سيارة أختي. والتاكسي تأخر في الوصول.
لولا أنها نهاية فترة تدريبي لما غادرت سريري.
أمس، دعوت أختي وزوجها وولديهما إلى المطعم لنحتفل بعيد ميلادها. أقيم عندها منذ أكثر من شهر، وأشعر بالامتنان لها؛ فقد سهلت عليَّ فترة تدريبي. لم أرغب في الالتحاق بفرع البنك هنا، لكن المؤسسة الأم لم تترك لي الخيار... والآن... بعد هذه التجربة التعيسة... صرت أرفض بشدة أكبر العيش في مدن ساحلية يتقلب فيها الجو بهذا الشكل.
غادرت الشقة وأنا أسبح في عرقي. لم أكن أشعر بتحسن، ولم أستطع أن أرتدي الكثير من الملابس. حرارتي المرتفعة وفورة الحمى التي لازمتني طيلة الليل دفعتني لتخفيف ما أرتديه، والآن وأنا أقف على الرصيف بانتظار الحافلة، أشعر بالبرد وألف ذراعي حول صدري، وأنا أتطلع بامتعاض إلى السحب الثقيلة التي تغطي السماء، وتنذر بانقلاب جوي مفاجئ، كما هي العادة في صباحات الربيع الأولى.
أخذت عائلة أختي إلى مطعم أنيق على الشاطئ، وطلبنا سمكًا وسلطات فواكه البحر وعصائر وقالب حلوى مزينًا بأطنان من الكريمة الدسمة والسكاكر المغلفة بالشوكولاتة. 
كان عشاءً رهيبًا... بكل ما للكلمة من معنى... 
لم نستطع أن نتمشى على الشاطئ كما خططت. ارتمينا داخل سيارة زوج أختي، وعدنا إلى البيت في حالة مزرية. آلام بطن وقيء وصداع ودوخة لازمتنا طيلة الليل. بلعنا ما وجدناه من مسكنات في صيدلية البيت، ولم يأتِ صديق زوج أختي الطبيب الذي استنجد به، والذي قال إنه سيحاول أن يأتي ليرانا. بقينا نتقلب كالمجانين حتى الصباح... وغادرت الشقة بصعوبة وتركت أختي وأسرتها نائمين.
أصبنا بتسمم غذائي. لازمني الشعور بالذنب؛ بسبب مسؤوليتي غير المباشرة عنه طيلة الليل.
بدأت تمطر.. رذاذ خفيف سرعان ما تحول إلى زخات ثقيلة بللت شعري وألصقت قميصي الخفيف بجسدي. 
بدأت أفكر جديًا في العودة إلى البيت وتغيير ملابسي، عندما لاحت الحافلة أخيرًا، ووجدت نفسي أصعد إليها دون تردد.
سأذهب إلى عملي بهذه الحالة. هل سأجد من ينجدني ويعيرني سترة أو بلوزة أو أية قطعة ثياب لحين جفاف ما أرتديه؟
غرقت في أفكاري ولم أنتبه، إلا بعد حين، إلى الرجل الجالس على المقعد الذي يقابلني. كان يحدق فيَّ بإمعان شديد. تفقدت هندامي وقد تملكني الشك. هل علق شيء بشعري؟ أو ربما اتسخت ثيابي من دون أن أدري...؟ رتبت خصلاتي المبللة، وسحبت قميصي، ولم أجد ما يريب.
رفعت رأسي، وألفيت الرجل لا يزال يحملق فيَّ، وقد ارتسم على شفتيه شبح ابتسامة.
تتبعت نظراته، وتملكني الحنق.
الرجل يحدق في ثيابي المبللة، بلا خجل.
رفعت ذقني وتطلعت بدوري إليه بتحدٍ. ولم يحد بنظراته. ولم يتوقف عن تأمل جسدي والابتسام بشكل مقرف.
أخذت نفسًا طويلًا، وحاولت أن أهدأ... من دون جدوى.
قفزت من مكاني أول ما توقفت الحافلة، ورفعت يدي إلى أعلى وقد فاض بي الكيل، وصفعته بكل ما أوتيت من قوة، واستدرت لأخرج.... وسمعت ضجة خلفي.
بعض الركاب هبوا ليساعدوا الرجل الذي فقد توازنه وهو يحاول الوقوف، ومدوا إليه عصا بيضاء، وانهمروا بالشتائم عليَّ.
الرجل كان كفيفًا.
نزلت من الحافلة ووقفت أنظر إلى الجمع ببلاهة والمطر يغمرني.