سفر

نجاة غفران

لا تصدق ما يحدث لها. حقيبتان مثقلتان بالكتب والأغراض التي لن تحتاج إليها. لكن والدها كان صارمًا. إما أن تفعل ما أمرها به، أو تبقى في البيت. «هناك مخيمات شبابية في الشاطيء، يمكن أن تتسجل فيها، لا تحتاج لأن تبتعد خمسمائة كيلومتر عن البيت لتستمتع بعطلتها. وسائل الترفيه كثيرة في العاصمة...»
لا تتخيل أن تقضي الإجازة رفقة والديها. أبوها شديد العصبية هذه الأيام. مشاكله في الشغل تؤثر على علاقته بها، هي بالخصوص. وأمها كالعادة تسايره في كل شيء، ولا تعارض ما يقوله.
كان يفترض أن يتوجه الثلاثة نحو الجنوب، لزيارة جدها، ومن ثم يستقلون الطائرة إلى باريس، حيث ينتظرهم عمها ليترك لهم شقته ويأتي هو بدوره لقضاء إجازته مع الجد. ليست المرة الأولى التي يتبادلون فيها الأدوار بهذا الشكل. ورغم ما يسببه السفر مع والدها من ضغوط وانفعالات، كانت تصبر وتكظم غيظها بانتظار الوصول إلى باريس، حيث الجو مختلف تماماً. خروجاتها مع الأصحاب وزيارة معالم المدينة التي لا تنتهي واكتشاف برامج الصيف الترفيهية تنسيها كل شيء.
هذا العام، لم يستطع والدها الحصول على إجازته في الصيف. وكان رأيه أن تبقى معه ووالدتها في الرباط، لكنها أصرت على السفر لرؤية جدها. قريته الجبلية بعيدة ومعزولة وفرص التسلية منعدمة فيها، لكنها تفضل ذلك على مراقبة والدها اليومية لها وأوامره ونواهيه التي لا تنتهي. يكفي أنه أجبرها على أخذ مقرر العام المقبل بالكامل لمراجعته هناك في الجبل «حيث الجو الهاديء والسكينة اليومية تساعد على التركيز والفهم...»
أي والد هذا الذي ينتظر منها أن تقتل نفسها بالمذاكرة خلال إجازة الصيف؟
نظرت لساعتها بامتعاض وسحبت قبعتها على جبينها الذي بدأ يتفصد عرقًا. الشمس حارقة والحافلة لا تظهر. كان عليها أن تنتظر عودة والدها من العمل ليوصلها إلى المحطة. لكن لا. الحر أرحم من ديباجة وصاياه التي لا تنتهي.
سيحول اللحظات التي تجمعهما قبل أن تركب القطار إلى جحيم معاناة.
بعث معها في الحقيبة الثانية دزينة أغراض لوالده. شاي فرنسي وكعك وقوالب سكر أسمر وعلب قهوة وملابس وتشكيلة أدوية وراديو جديد وأشياء أخرى لا تتذكرها كلها. لم يتبق لها مكان تضع فيه أغراضها القليلة. فالكتب اللعينة احتلت الحقيبة الثانية بالكامل تقريباً.
أصر والدها على أن تلقي نظرة عليها، وقال بأنه من المفيد أن تبدأ بمطالعة كتاب الفلسفة «فالمادة صعبة وهي عماد الثانوية العامة إذ أن كثيرًا من الطلاب يحصلون على نتائج متواضعة وأحيانًا يرسبون بسبب عجزهم عن فهم المواضيع الفلسفية المطروحة في الامتحان... »
مضحك أن أول جملة قرأتها في الوثائق المصاحبة للكتاب كانت: « قبل أن يذوب الكاتب في الصمت وينهي حياته بيده، كتب هذا المؤلف...»
ممتاز... مقدمة مثيرة تشجع على الاستمرار في المطالعة...
قطعت على نفسها عهدا. أول ما تنجح وتحصل على الباكالوريا سوف تختار التخصص في مجال لا علاقة له بالكتب ولا بالفلسفات. مجال مهني يدوي بحت... كالبستنة، أو التطريز، أو الطبخ، أو حتى الميكانيك. ولم لا..؟ لديها صديقة تدرس ميكانيك السيارات في الدار البيضاء.
فتحت حقيبة يدها تبحث عن منديل تمسح به وجهها. الحر لا يطاق والحافلة اللعينة لا تظهر...
تعالى صوت محرك قادم من بعيد. الحافلة. أخيرًا...
انزاحت جنب الطريق وجذبت حقيبتيها الثقيلتين وبحثت في جيوبها عن بطاقة الحافلة. 
بدأ الناس يصعدون، ونزل بعض الركاب، ولم تعثر بعد على بطاقتها. 
غريب. حرصت على أن تتركها في متناول يدها.
تحركت الحافلة، وهي لا تزال تقلب جيوبها، وحقيبة يدها. لا يمكن أن تنتظر نصف ساعة أخرى في هذا الحر.
زمر السائق وانطلق مبتعدًا بالحافلة، وصرخت بغيظ وهي تلوح له بكلتا يديها: « تبًا... ألا يمكنك الصبر لحظة؟ تبًا...»
وسقطت البطاقة من بين شفتيها.
حملقت فيها ببلاهة وركلت الأرض بكل ما أوتيت من قوة وهي تبرطم بغضب.