ثمرة القسوة

أميمة عبد العزيز زاهد

 

بنبرة حسرة مصحوبة بندم، قال إني أستغيث بأبنائي وأرجوهم أن يضحوا بساعة من نهار، أو بلحظة من وقتهم لأسمع فيها أصواتهم؛ فقد انقطعت صلتي بهم‏‏ من مسافر إلى متشاغل إلى متجاهل.
تداعت الذكريات أمامي كأعمى رد إليه بصره فجأة، وأرى نفسي في مخيلتي كيف كنت أتعامل معهم بكل جبروت وقسوة،‏ لا لم أكن أعمى فقط، فلم تكن حاسة البصر هي التي فقدتها بل والسمع أيضاً، فأنا لا أذكر أني أنصت لأحد منهم رغم محاولاتهم الكثيرة والمريرة؛ لكي يعرضوا عليَّ مشاكلهم الصغيرة نعم لم أكن يوماً ذلك الأب الحنون العطوف، بل أعترف بأني كنت أباً قاسي المشاعر متبلد الأحاسيس، ولن أسامح نفسي على إهمالي وحرماني لهم من الحياة بصورة طبيعية، وأنا كنت أعيش في محيطهم نفسه، وأتنفس من هوائهم. ‏
أعترف بأني أخطأت بقسوتي عليهم في طفولتهم وشبابهم‏.‏ وفي اعتمادي لسياسة الإيذاء البدني والمعنوي بلا تبصر ولا اعتدال، فكنت لا أعرف المزاح ولا الضحك، وإنما هم وغم وسخرية لا أول لها ولا آخر. الآن أحسست بأني لم يكن لي دور في تربيتهم أو تعليمهم، ولم أحمِهِمْ من غدر الأيام، ولم أكن لهم عوناً ولا سنداً وعزوة، ولم أمثل لهم يوماً مصدر فخر واعتزاز... فقد انشغلت وتشاغلت‏ عنهم في السعي وراء مصالحي ورغباتي ونكصت عن القيام بالواجب الإنساني والاجتماعي والمادي تجاههم، وتخليت عن مسئوليتهم،‏ فحُفِرَ في أعماقهم أثرٌ لم تستطع الأيام محوه،‏ أ‏عرف أنه ربما طوت أنفسهم عني ما هو أكثر بكثير من كل ذلك.‏
إنها ذكريات لا أرغب في تذكرها ولكن الموقف يستفزني، فبعد ما حرمتهم من حناني في طفولتهم ومراهقتهم، وتخليت عنهم في عنفواني وعز قوتي، وهم في أمسِّ الحاجة للمسة من يدي وهمسة من شفتي وضمة من ذراعي أراني الآن بعد أن وهنت صحتي، وضعفت قوتي أحتاج لوجودهم بجانبي، وربما لولا المرض لتكبرت عن استجداء رؤيتهم، وربما كنت تعاميت عن رؤية أخطائي في حقهم بقية حياتي، ولما ناشدتهم‏ لزيارتي، التي لا أريد خلالها أن يحاسبوني عن الماضي، ولا أن يصدروا عليّ الأحكام القاسية التي أستحقها؛ لأنهم لن يقبلوا تبريراتي. إني أريد فقط أن يقبلوا اعتذاري ويصفحوا عني قبل أن تنقضي صفحتي ولا يحرموني ذلك في آخر أيام حياتي، فهل أكون طماعاً حين أطلب منهم أن يشهدوا طي صفحة حياتي‏، كما شهدت أنا على الأقل بدء صفحات حياتهم. 
وأياً كان سجلي معهم، فقد ندمت وطلبت من ربي أن يغفر لي ويسامح تقصيري، وإنني أتمنى أن تكون حرارة ندائي المؤلم وصدقه كفيلين بإذابة كل تلك المرارات‏،‏ وبأن يقدموا على رؤيتي والاطمئنان على صحتي ورعايتي في شيخوختي ومرضي، وأن يراعوا حدود الله معي مهما كانت أخطاء الماضي ومرارته‏، فهل أكون مغالياً في أمنيتي أم أنه يمكن تحقيقها؟