فتات الخبز

نجاة غفران


كل صباح، قبل الفجر... كل مساء، قبل المغيب... أنثر فتات الخبز على رف نافذة المطبخ الواسعة المطلة على الحديقة... وأجلس بالساعات أنتظر اقترابها... طيور الدوري الصغيرة التي تعودت على نقر ما أرميه على الشرفة والزقزقة بمرح وهي تدور حول نفسها وتعبث بريشها وتقفز، ونغمات تغريدها المكررة تتحول إلى زغردات مستقلة تتدحرج كرقرقة قطرات مياه نبع صافٍ في وادٍ أخضر.


كم أحبها... وكم أشعر بالتعاسة وأنا أستمع إليها!
الحديقة التي تطل عليها شرفتي ركن معزول في الفضاء الممتد حتى شريط الطريق الأسمنتي البعيد. أنا أسميها حديقة، ولكنها في الحقيقة أرض خالية نبتت فيها أشجار معزولة، يقال إن تعقيدات إدارية منعت المستثمر الذي يملكها من بناء التجزئات السكنية التي يودّ إقامتها فيها. لن أغتبط إن تغيرت الأمور. الشقة الضيقة التي أستأجرها في البناية المطلة على الأرض البراح ستتحول إلى علبة ثقاب أختنق فيها. لا متنفس لي غير شرفة المطبخ. ولا رغبة لي في ذرع شوارع المدينة من جديد، بحثاً عن سكن في متناول راتبي المتواضع.


أكاد أتمم العام هنا. أقضي يومي في مقر عملي، في مركز الإرشاد الهاتفي الذي تقلني إليه حافلة العمال كل صباح، وأعود قبل المغيب لأقتسم ساندوتش الجبن والطماطم مع عصافيري. هي لا تحب الحشوة، أنثر الفتات لها... وأتأملها وهي تقفز وتصدح لي... ويعود بي الزمان عاماً إلى الوراء.
كم مرة سألته... «لِمَ لا نفتح أبواب الأقفاص لها؟» تغريدها الشذي يدفعني للتطلع إليها بحزن، ويداي ترتجفان... تتحرقان رغبة في جذب الأبواب الصغيرة وترك لفات الريش الأصفر والأخضر والفستقي تندفع عالياً وتصدح في السماء البراح وتعانقها...
تعانق الحرية.


كان يضحك ساخراً، ويردد بأنه لم يفقد عقله بعد. دفع في فريق أزواج الكناري التي وزعها على دزينة أقفاص بديعة الصنع ثروة صغيرة. ليس ممن يرمون نقودهم في الهواء. ليس غبياً.
لا أدري ما الذي أعجبني فيه. لا أفهم كيف تعلق قلبي به.
تساءلت للمرة المليون وأنا أغادر عملي إن كان يفكر، ولو قليلاً، في المرأة التي قلب كيانها منذ عام.


لم تستمر علاقتنا طويلاً.
زواجنا...؟ لا أدري. لا أعلم شيئاً عنه منذ خروجي من حياته.
رميت مقتنياتي القليلة في كيس بلاستيكي وغادرت بيته.


حدث ذلك بعد أن اكتشفت سبب غيابه لليالٍ متواصلة عني. لم يكن في رحلة عمل، كما زعم. ابنة عمه التي كان يردد ساخراً بأنهم خطبوها له وهما في المهد، عادت من أمريكا. أسرتاهما تريدان تعجيل عقد الزواج. ولا أحد يعلم شيئاً عني وعنه.
تركت له المجال ليتصرف. ليطلب الطلاق. وعدت لعيشتي السابقة.
لم يحاول الاتصال بي. فتاة التليفون التي أدارت عقله صارت ماضياً لا يعنيه. ترك لي باب القفص مفتوحاً، ولم يكترث عندما رآني أطير بعيداً وأختفي.


أتذكر، وأنا أراقب عصافير الدوري الصغيرة، كلماته التي دوختني. لم يسبق له أن وقع في غرام صوت. جاء يسأل عني في مركز الإرشاد الهاتفي ويطلب الخروج معي. لا يدري ما يحدث له. يود البقاء معي، والتحدث إليّ، والنظر في عيني، ولمس يدي، وضم جسدي.
لقاءاتنا المتكررة لم تعد تكفيه. ولم أصدق نفسي عندما رافقني إلى المأذون... وتزوجني. أنا الفتاة اللقيطة التي كبرت في دار خيرية وعاشت في الظل عشرين سنة. لم أصدق أن الحياة حبتني بكل هذا الحظ.
بضعة شهور... وبدأ جدار الهوى الذي يفصلنا عن العالم يتشقق. أولاً، سفريات عمله التي لا أعلم عنها شيئاً، وزياراته العائلية، ولماته مع الأهل والمعارف، وخروجاته مع أصحابه... عالم موازٍ يستحسن ألا أحشر أنفي فيه.
ويوم حاولت أن أطل من ثقب الباب، صفعت بخبر عودة ابنة العم الجميلة المحملة بدبلومات ورقي وسمعة ومستوى... وفضلت أن أتنحى بكرامتي بعيداً قبل أن أراها تمرغ في التراب.


كيف لي أن أصدق، وأنا أستمع بكآبة لثرثرة زميلاتي أمام مبنى المركز، وحافلة العودة تقترب بأنني المقصودة بالنداء الذي التفتت له كل البنات؟!
كان يقف أمام سيارته المرسيدس على الطرف الثاني من الشارع... ويناديني.
ظننتني في حلم.


لم أستطع أن أتحرك من مكاني. تقدم نحوي، وارتفعت وشوشة البنات، ومد يده إلى ذراعي: «ألا تسمعين؟ هيا...».
لم أنبس بحرف. لكنني تبعته، وجلست في سيارته، وتنفست عبير عطره، وسمعت فوضى كلامه وهو يهمس بصوت محموم: «لماذا تجاهلت ندائي؟ اشتقت إليك. أتعرفين؟ حاولت المجيء إليك أكثر من مرة. لكنني فضلت أن أتركك تفكرين. تباً... لماذا هجرتني؟... ألم تشتاقي إليّ؟ إلى بيتنا؟ إلى حياتنا؟ أتعرفين... فتحت أبواب الأقفاص أخيراً... لن تشدو الطيور حولنا ونحن نشرب القهوة... لكن...»..
«ستفعل... إن نثرنا لها فتات الخبز... ستفعل... ولن نحتاج لسجنها في الأقفاص...».
سيارته تتسلل وسط الزحام، ونحن نناقش مصير الطيور، وقلبي يرقص بفرح وأنا أعود له.